الشيخ جراح - وقفة ضرورية
دعونا لا نخدع أنفسنا؛ لقد كِدنا نخسر بالحيلة ما لم نخسره في حرب كاملة، هذا ما كنا نقف أمامه في الشيخ جراح قبل أسبوعٍ من الآن. لسنا معنيين بالدخول في سجالٍ مع أهل الحي، لكن لا بد من تثبيت الوقائع لنأخذ منها الدروس ونبني عليها.
لقد وقّعت 7 عائلات من أهالي حي الشيخ جراح على وثائق موافقة على التسوية التي كانت مطروحة من محكمة الاحتلال "العليا"، وأودعتها يوم الأربعاء 27-10 لدى محاميها سامي ارشيد بحضور المحامي حسني أبو حسين الذي يتابع القضية منذ عقود من الزمن.
قبل هذا التوقيع بيومٍ واحد كان اجتماعٌ حاشد قد عُقد في الحي لممثلي القوى الوطنية والإسلامية، والهيئة الإسلامية العليا في القدس، ولجنة المتابعة في الداخل المحتل عام 1948، وأبلغت هذه القوى موقفها بالإجماع لأهل الحي، لكنها لما وجدت أهل الحي يتحفظون على إعلان رفضهم، اضطرت إلى إعلان موقفها في بيانٍ للإعلام في 26-10-2021، وقد كانت هذه الجهات ذاتها قد أعلنت موقفها للإعلام كذلك في 15-10-2021، بعد اجتماعٍ مشابه مع أهل الحي.
بعد اجتماعاتٍ طويلة ومتكررة عقدتها القوى مع أهل الحي، وبسبب تحفظ العائلات على إعلان موقف، وإصرارها على سرية موقفها باعتباره شأن حصري ما بينها وبين المحامين؛ اضطر الباحث زكريا عودة من الائتلاف الأهلي للمؤسسات في القدس إلى إعلان موقف في 20-10-2021 يناقش فيه التسوية علناً ويدعو الأهالي إلى رفضها، وهو الباحث الأقرب إلى أهل الحي وقضيتهم الذي وقف إلى جانبهم على مدى 14 عاماً، وحضر 90% من جلسات المحاكم فيها كما قال في مقدمة بيانه، ولو لم يكن يعلم يقيناً أن النية تتجه إلى قبول التسوية، ولولا أنه عجز عن إقناع أهل الحي برفضها من خلال تواصله اليومي المباشر لما كان اضطر إلى إعلان موقفه.
لقد كان هذا التخوف ذاته هو الذى حدى باسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس للاتصال بأهل الحي في 26-10-2021 والتأكيد بأنهم ليسوا مضطرين للتعاطي مع التسويات، وأن المقاومة لن تتركهم وحدهم، وبخالد مـشعل رئيس حركة حماس في الخارج ليؤكد بعدها بأن هنية أعطى أهالي الحي "ضمانة المقاومة"، وبأن ما حصل في 28 رمضان الماضي سيتكرر.
باختصار، لقد كان ميل العائلات إلى التسوية أمراً معروفاً لدى كل القوى السياسية الفلسطينية، ولم يكن سراً مخفياً، وكان الكل يحاول ثني العائلات عنه بالطمأنة وبالتواصل المباشر وبالدعم بعيداً عن الضغط الإعلامي المباشر، لكن العائلات حافظت على صمتها في مرحلة لا تحتمل الصمت، وكان الجميع يدرك بأن العائلات ذاهبة للتسوية من خلال اتصالات أجراها محاميهم سامي ارشيد ببعض الشخصيات لحفظ خط الرجعة بعد إيداع الوثائق لديه، حتى لا يُحمّل وحده المسؤولية عن الموافقة بعد أن رأى المشهد يحتدم بكل هذه المواقف.
من المؤسف اليوم أننا نضطر إلى إثبات الحقائق الثابتة، وهذا لا يمنع أننا نرجو في الوقت عينه للعائلات السبع أن تشق لنفسها مخرجاً مشرفاً من الأزمة، ونقدر موقفها وهي التي تقف في عين العاصفة ويجري عليها كل ما يجري على البشر أمام هول التحديات؛ لكننا نرجو لها في هذا الطريق أن تحافظ على مصداقيتها وعلى احترام الناس لها، وبأن يحترم نجومها عقول أبناء شعبهم وأمتهم التي احتضنتهم وما تزال.
ما يعنينا بعد تثبيت هذه الحقائق هو أن نبني عليها ونستفيد من التجربة، حتى لا نعود إلى هذا المربع لا في الشيخ جراح ولا في أي حي آخر، ولعل النقاط التالية يمكن أن تسهم في ذلك:
أولاً: منزلق التسوية في الشيخ جراح لم ينتهِ بعد، وقبل أن نسترخي جميعاً لا بد أن ندرك أن ما شاهده المحتل من ميل للتسوية قد يدفعه للتمسك بها، وربما تلجأ محكمته للتعويل على الوقت لفتح باب التسوية من جديد، إما بالدعوة لجلساتٍ سرية لتقريب وجهات النظر، أو بتدارس الأمر مع الحكومة الصهيونية، بحيث يتبنى المستشار القضائي للحكومة مقترح التسوية وتتولى المحكمة تأييده وفرضه على الجميع، وهنا لا بد من الإصرار على رفض التسوية بكل وجوهها.
ثانياً: لا بد من إدراك روح هذه القضية سياسياً، فالهدف هو تصفية منطقة الشيخ جراح في القدس بأي ثمن لربط الجامعة العبرية بالمركز اليهودي غربي القدس، وتطويق المركز التاريخي للقدس بقاطع يفصله عن أحياء شمال القدس، ولقد بتنا نعلم اليوم أن المحتل كان يُعدّ لإخراج التوقيع على التسوية ضمن مشهد نصرٍ شامل في الشيخ جراح، ولذلك أعلنت محكمته "العليا" مصادرة أرض عائلة عبيدات وعودة الملاصقة لكرم الجاعوني من الشرق قبل انتهاء مهلة التسوية بيوم، وسلمت 7 عائلات من المنطقة المعروفة بكبانية أم هارون أوامر تهجير بعد مهلة التسوية بيوم، وهي الواقعة إلى غرب كرم الجاعوني عبر الشارع، وكانت الصورة لو حصلت التسوية بأن الحي بكامله انتهى أمره وبات بقبضة المحتل.
ثالثاً: تقف اليوم سبعة أحياء في القدس أمام قضايا تهجير جماعي إلى جانب كرم الجاعوني في الشيخ جراح، هي كبانية أم هارون في الشيخ جراح والأشقرية في بيت حنينا، والبستان ووادي حلوة وبطن الهوى ووادي الربابة وعين اللوزة في سلوان، وفي كل واحد من هذه الأحياء تدار المعركة من طرف المحامين وأهالي الحي وحدهم، وينحصر سقفها بالدفاع القانوني غالباً رغم الإمكانات الشعبية والإعلامية الكبرى لو تمت إدارة هذه الملفات بشكلٍ موحد.
ما يمكن أن يقلب الطاولة حقاً في إدارتنا للمواجهة في كل هذه الأحياء هو أن تجتمع في جبهة واحدة سياسياً وشعبياً وإعلامياً، ليصبح الدفاع عن الشيخ جراح دفاعاً عن سلوان، والدفاع عن سلوان دفاعاً عن الأشقرية، ودفاعاً بالتالي عن الحق الناصع في القدس وكل فلسطين، وأن يتبنى محاموها استراتيجية موحدة تنسّق الموقف وتمضي على أساس أن المحكمة مساحةُ تعطيل وتأخير للمحتل وليست لإتاحة المجال له للقرار، ولا لقبول قراراته أو تسويقها.
واجب الساعة اليوم هو أن نوقف كل هذا التشتت والتبعثر، وأن توضع إدارة المواجهة على هذه الأحياء تحت سقف القوى الوطنية والإسلامية من جديد، ومعها الهيئة الإسلامية العليا في القدس، وبتنسيق الموقف مع القوى الوطنية والقومية في الداخل المحتل وبالتنسيق مع القوى الشعبية خارج فلسطين. الحل في أن نوحد جبهاتنا التي فتحها المحتل وأخذ يدفعنا إلى التبعثر فيها، وبأن نجمع شتات ضعفنا ليصبح قوة، ولنحيل طمع المحتل وجشعه لعنةً عليه، فبوحدة كل هذه الجبهات لن يتمكن من التقدم على أي منها.