الجيب: مملكة كنعانية وإرث تاريخي يتآكل
"الجيب" هذا الاسم الكنعاني للقرية التي تقع شمال غرب القدس المحتلة المنسوب لمملكة "جبعون" الكنعانية لم يكن هو ميراثها الوحيد عبر العصور، حيث استوطنها البشر منذ العصر البرونزي الوسيط (حوالي 3200 عامًا قبل الميلاد) وتحتفي بإرث تاريخي امتد في الفترات الكنعانية والهلنستية والرومانية والبيزنطية والإسلامية، وفقًا لما تشير إليه مصادر أثرية وتاريخية.
تسمية الجيب جاء من جذر "جبع" بمعنى "التل" الذي تعتليه البلدة القديمة وتمتد مبانيها على السفوح الشرقية الشمالية والغربية مرورًا بمقبرة البلدة وصولًا إلى تل الرأس بالجنوب، فيما ظهر اسم مملكة الجيب (جبعون) الكنعانية في مخطوطات فرعونية على جدران معبد الكرنك بمدينة الأقصر المصرية حيث تفردت مخطوطة كاملة للحديث عن سبي أسرى من مملكة جبعون أيام الفراعنة.
ووفقًا لكتاب "طوق النجاة" الصادر عن "رواق" مركز المعمار الشعبي إن اختيار تلك الممالك التي استوطنت الجيب لم يأتِ بمحض الصدفة وإنما بسبب عمق علاقة الجيب بالساحل الفلسطيني وربطها بين الساحل وشرق الأردن وبلاد الحجاز ولذلك فإنها تمتعت بمكانة استراتيجية جعلها وجهة للسكن دائمًا.
وتستقر المباني القديمة بالجيب على تلة بشكل شبه منتظم مرتبطة ببعضها عبر أزقة، وبحسب آخر تحديث لنتائج البحث الميداني لعام 2007 والموثق في سجل "رواق" مركز المعمار الشعبي تم تأكيد وجود 120 مبنىً تاريخيًا في المركز التاريخي، منوعة بين الأحواش والأزقة والساحات.
وتقول المعمارية في "رواق" دانا عباس إن توالي الأزمنة التي سكنت الجيب يمكن اكتشافه في تراكب حجارة مبانيها، "بمعنى أننا نستطيع أن نقرأ بوضوح كل جدار في أي عهد تم تشييده فتجد في المبنى الواحد جدار انهار جزء منه وأعيد بناؤه في عصر آخر وأضيف عليه في عصر مختلف آخر وهكذا دواليك".
وعن طرز الأبنية تذكر عباس أن المدينة الأصلية التي سكنها الكنعانيون كانت على شكل قلعة محصنة، ووفقًا لخبراء لم يتبقَ منها أثر، إلا أن آثار البيوت الرومانية ظاهرة، وفي عهد البيزنطيين استخدمت البلدة القديمة ومبنى الكنيسة لأغراض عسكرية، ثم جاء المماليك ليكملوا على بنائها العسكري لتجد فتحات في جدران الكنيسة تسمى "طلاقات" لإطلاق السهام، وعندما جاء العثمانيون أعادوا استخدامها للسكن.
وأشارت إلى أن المباني تطورت إلى النمط الثالث "الفلاحي" المكون من بيت "قاع" للمواشي و"راوية" أي مكان معيشة العائلة، وفيما بعد تأثر طرازها المعماري بالمستوى الاقتصادي المنتعش لأهالي القرية، ثم الانتداب البريطاني الذي أصبح أكثر مدنية كاستخدام القرميد والشرفات البارزة.
وعن أهم معالم الجيب الأثرية ذكرت عباس، أن منطقة "تل الرأس" تعد أهم هذه المعالم إذ تحوي نظامًا مائيًا منذ العصر الحديدي ويحتوي على بركة يمكن الوصول إليها عبر درج لولبي لا يزال قائمًا إلى جانب ذلك قنوات استخدمت كمسارب للمياه من العين، بالإضافة لمعصرة ومخازن نبيذ وزيتون وحقول زراعية.
وتتابع دانا عباس، "كما يشكل مبنى الكنيسة الذي كان جزءًا من التحصينات القديمة يتكون من ساحة كبيرة ومجموعة من الغرف يتم الولوج إليها عبر مدخل بقوس نصف دائري يعلوه نافذة تضيء المبنى، هذا عدا عن مقابر تعود إلى ما قبل التاريخ، وبئر عزيز، والكهوف والنطوف".
وقالت إنه في السابق اشتهرت مملكة "جبعون" بصناعة النبيذ من العنب المقدسي قبل أن تضربه آفة زراعية، ما أدى لتحول معاصر النبيذ إلى معاصر زيتون، كما اشتهرت بصناعة الفخار عبر ماركة مسجلة باسم "جبعون" حُفرت على الفخاريات وفقًا لحفريات أشارت إلى وصول فخار ونبيذ الجيب إلى دمشق وجزيرة قبرص.
وذكر كتاب "طوق النجاة" أن الموروث التاريخي الخاص بمملكة "جبعون" تعرض لعمليات هدم وتخريب وإساءة لاستخدامه على مر السنوات السابقة كالبناء على أنقاض الأبنية القديمة وعلى أطراف البلدة القديمة.
وخلال حديثنا في القسطل مع رئيس المجلس البلدي في الجيب غسان علان قال إنه على الرغم من الأهمية التاريخية للجيب إلا أنها لم تدرج على خارطة السياحة الفلسطينية حتى إعداد هذا التقرير وقد بدأت حديثًا مساعٍ لضمها ضمن خطط وزارة السياحة والآثار خلال الفترة القادمة.
وأشار علان أن الجيب قبل عام 1967 كانت وجهة السياح، ولكن بعد احتلال القدس تقطعت السبل السياحية للجيب حتى يومنا هذا إلا من بعض المسارات لمجموعات قليلة من الزوار المحليين.
بدأت "رواق" بترميم مباني بالجيب منذ العام 2017 على عدة مراحل لحماية ما تبقى من هذا الإرث التاريخي من الهدم والتعديات والاندثار، إلا أن الملكية الخاصة للبلدة القديمة شكل عائقاً أمام تطوير وترميم المباني كما أنه يزيد من التعديات على هذا الموروث كالبناء بالقرب من المباني القديمة، بحسب علان، مؤكداً أن البلدية تشترط موافقة وزارة السياحة والآثار لمنح تراخيص بناء.
وذكر علان أن وزارة السياحة والآثار أعطت أحد المواطنين موافقة للبناء بالقرب من أحد المباني شريطة البناء بلون حجر مشابه للون العتيق، "هذا غير مقبول" يتابع رئيس المجلس البلدي.
من جانبه قال صالح صوافطة مدير عام حماية الآثار بوزارة السياحة والآثار إن وزارته تعد خطة حماية للآثار في الجيب بالتعاون مع المجلس البلدي ورواق لوضع إجراءات تدخل لحمايتها من التعديات والتسويق السياحي للجيب لجلب السياحة لها.
ونفى صوافطة أن تكون وزارته قد منحت أي موافقة للبناء بالقرب من البلدة القديمة إلا ضمن الشروط المسموحة بقرار قانون التراث الثقافي المادي لعام 2018.
يذكر أن أراضي الجيب مصنفة ضمن الأراضي "ب" و "ج" كما أن الاحتلال صادر حوالي 4500 دونمًا لصالح مستوطنات "جيفات زئيف"، "جيفعون وحداشا" وهي من ضمن القرى المحاصرة بجدار الفصل العنصري.
. . .