كابوس الهدم يُطارد أهالي "البستان" في سلوان
القدس المحتلة - القسطل: في سلوان، الحامية الجنوبية للمسجد الأقصى، تلك البلدة التي أضحت من أهم أحياء القدس، وأكثرها ظهوراً في واجهة الأحداث اليومية في المدينة، وعلى السفح الشرقي للتلة التي تنتصب عليها الحارة الوسطى، حيث كانت تتواجد بساتين ومزارع أهالي سلوان قبل العام 1948، يقع حي البستان.
نشأة حي البستان
بحسب عضو لجنة الدفاع عن سلوان فخري أبو دياب وابن حي البستان، فإنّ البستان الذي أُقيم عليه الحي، موجودٌ منذ آلاف السنوات، وقد كانت تزرع فيه العديد من المزروعات، وكان البستان سلة غذاء القدس القديمة، وقد أوقفه الخليفة عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وهو الوقف الإسلامي الأول خارج جزيرة العرب.
بدأ العمران والسكن في الحي عام 1978، كما يذكر المركز الإسرائيلي لحقوق الإنسان (بتسيلم)، إلّا أنّ أبو دياب يُفنّد تلك المعلومات إذ يشير إلى أنّ البناء بحي البستان، الذي يشكل امتداداً للحارة الوسطى، بدأ بعد العام 1948، ومع زيادة عدد سكان سلوان، بسبب لجوء العديد من أهالي قضاء القدس، وقدوم عدد من عائلات الخليل إلى سلوان، بدأ حي البستان بالتوسع بشكل تلقائي ليصل عدد البيوت في الحي إلى 121 منزلاً في العام 2009.
أما اليوم وبحسب ما يفيد به أبو دياب يبلغ عدد منازل سلوان، حوالي 90 منزلاً، ما يشير لتعرض 31 منزلاً في سلوان للهدم بحجج البناء بدون ترخيص وذلك خلال الفترة بين عاميّ 2009 و2020.
استهداف الاحتلال لـ “البستان”
لا يُمكن بحالٍ من الأحوال فصل خصوصية الاستهداف “الإسرائيلي” لحي البستان عن السياق الإجمالي لاستهداف سلوان والبلدة القديمة في القدس، فبحسب الرواية التوراتية المزعومة، فإنّ منطقة الحوض المقدس، أو “مدينة داود” تتكون من البلدة القديمة ومنطقة سلوان، جاء في التوصية التي أرسلها (أوري شتريت) مهندس بلدية الاحتلال إلى البلدية، لهدم حي البستان بالكامل في كانون أول 2004: " إنّ منشِئ مدينة القدس هو الملك داود، ففي التلة وما حولها مواقع أثرية منذ 5000 عام وهي ذات أهمية محلية وعالمية تُثبت مكانة هذه المدينة كواحدة من أهم المدن في العالم. ويشكل وادي داود، وهو أهم أجزاء وادي حلوة، ومدينة الملك داود وحدة أثرية متكاملة تتصل مع الأجزاء الأخرى من المدينة لتشكل وحدة متكاملة تتكون من حقب وأجزاء مختلفة. فمنذ التخطيط لبناء المدينة الحديثة إبان الانتداب البريطاني فقد تقرر أن الوديان الواقعة حول البلدة القديمة بما فيها وادي الملك ستستخدم كمناطق مفتوحة، وقد دعمت “سلطات التنظيم الإسرائيلية” هذا التوجه بمخطط البلدية المتعلق بالبلدة القديمة وما حولها في أدلة تتعلق بالتنظيم والتنمية والتي أصدرت عام 1970، وكذلك أدلة تتعلق باستخدام الأراضي والشوارع وأدلة أثرية مفصلة بهدف الحفاظ على هوية القدس داخل أسوارها ومنطقة البلدة القديمة بأكملها. وبناءً على ما سبق، آمر بهدم كافة الأبنية غير القانونية في وادي الملك داود”.
ويعكس ما ذكره “شتريت” ذرائع الاحتلال والسرديات التي يدّعيها بمؤسساته الرسمية وغير الرسمية لتهويد سلوان، لتتشكل السردية التي استهدف خلالها الاحتلال حي البستان، وإن بقيت تلك السردية ضمن نطاق التنظير، إلا أن الاحتلال وما أن أتمّ احتلال مدينة القدس في السابع من حزيران عام 1967، حتى بدأ في وقتٍ مكبرٍ باستهداف سلوان، وحي البستان.
بموجب قرارٍ من حكومة الاحتلال في 28/6/1967، تم وضع سلوان وغيرها من أحياء القدس تحت تصرّف بلدية الاحتلال في المدينة، والتي شكلت ذراعاً لحكومة الاحتلال في مشروعها بتهويد القدس والذي بدأ ضمن المسار التخطيطي، الذي تُرجم بالمخطط الهيكلي (م/ع.9)، وصنّف حي البستان كاملاً كمنطقة خضراء، يُمنع البناء فيها على الرغم من وجود الحي وعشرات المنازل والعقارات فيه قبل عام 1967، أعقب ذلك القانون الصادر عن سلطة الآثار التابعة للاحتلال في مدينة القدس، والذي صنّف حي البستان كحديقةٍ وطنية “إسرائيلية” في عام 1974.
القنبلة الموقوتة
شهدت السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، نهضةً عمرانيةً تجاريةً في مدينة القدس، انعكست على الزيادة السكانية الفلسطينية في المدينة المحتلة، وانعكس ذلك بطبيعةِ الحال على سلوان التي توسعت طبيعياً، وازداد عدد سكانها وضواحيها، ترافق ذلك مع إهمال متعمد من سلطات الاحتلال، وتراخٍ منها في إصدار تراخيص البناء في مختلف ضواحي القدس، خاصة في سلوان.
وبذلك أصبح حي البستان بعدد سكانه الذي قارب الـ3000 مقدسي، خارج دائرة التخطيط والترخيص “الإسرائيلية”، موجودٌ في الحقيقة ومعدوم الوجود في سجلات بلدية الاحتلال في القدس.
محاولة الاحتلال الأولى لهدم البستان
شهد عام 1995 وما تلاه تصاعداً في مسار التهويد لمدينة القدس، ولعل ذلك كان من ضمن الآثار السلبية لتوقيع اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية والاحتلال، وتأجيل المفاوضات حول القدس، ما جعلها بين براثن ومعاول الاحتلال.
في ذات العام نشرت “لجنة التوجيه لتطوير السياحة” في القدس مخططاً لإقامة متحفٍ “إسرائيلي” يُعرف باسم (وادي الملك) في حي البستان، والذي اعتمد عليه “شتريت” في إصداره أمر هدم حي البستان في تشرين ثاني من العام 2004، وبدأت بلدية الاحتلال فعلاً بتوزيع أوامر الهدم على قاطني وأصحاب المنازل في حي البستان عام 2005، وتم بالفعل هدم منزلين في الحي خلال العام ذاته.
يتحدث أبو دياب عن بدايات تشكل الحراك الشعبي الرافض لسياسات الهدم في حي البستان، ويقول لـ”القسطل”: “بعدما تسلمنا أوامر الهدم بدأنا بتشكيل لجنة من السكان، هدفها ترتيب وتنظيم قاطنيه لبدء نضالنا، ومن ثم تم التواصل مع المحامين والمهندسين، والمؤسسات الحقوقية، والإعلامية وكذلك السفراء والقناصل، والدبلوماسيين، وهيئة الأمم المتحدة، لمنع أكبر عملية هدم ستقوم بها بلدية الاحتلال (هدم 90 منزلًا) وستكون هذه سابقة، وأكبر عملية هدم جماعي في المدينة، بعد احتلالها عام 1967، بعد ذلك أقمنا خيمة اعتصام وتواجدنا بها وكانت من رموز الصمود في الثبات، وتحدي أوامر الهدم، وسياسات الهدم الاحتلالية في القدس”.
اتخذت اللجنة الشعبية لحي البستان عدةَ مسارات نضالية على المستوى الجماهيري والشعبي، عن طريق تنظيم اعتصامات جماهيرية، ولم تكتف بذلك بل اتخذ الحراك الشعبي المسار القانوني المتمثل في تقديم البيّنات القانونية لدى محاكم الاحتلال.
يوضح أبو دياب هذا المسار ويقول: “ذهبنا إلى محاكم الاحتلال رغم علمنا بعدم نزاهتها، وأنها جزء من المنظومة الاحتلالية، ولكن لكسب الوقت وسحب البساط من تحت بلدية الاحتلال، وترافق ذلك مع لجوئنا للمؤسسات الحقوقية والدولية، والقناصل والسفراء، وهيئة الأمم المتحدة، لأن أمر الهدم مخالف للقانون الدولي والإنساني”.
كُلّلت تلك الجهود الشعبية التي قام بها أهالي سلوان وحي البستان، بانتصار مرحلي تمثل بإعلان رئيس بلدية الاحتلال في القدس “أوري لوبليانسكي” بالتراجع عن قرار هدم الحي، والسماح لسكانه بترميم بيوتهم وتأهيلها، ولكن بشرط الموافقة من بلدية الاحتلال.
معركة التراخيص والخطط الهيكلية
لم تكن بلدية الاحتلال جديةً في تعاملها مع أهالي حي البستان، فخلال الفترة بين عامي 2006 و2009، أصدرت عدداً محدوداً من تصاريح البناء والترخيص للمقدسيين في الحي، وبعد أن عمل الأهالي بالتعاون مع عددٍ من المحامين والمهندسين على إعداد مخططٍ هيكلي لحي البستان، يراعي الحق الطبيعي لسكانه في العيش في حيهم، وترميم عقاراتهم فيه، والتوسع الطبيعي، رفضت ما تسمى بـ”لجنة التخطيط اللوائي” لدى الاحتلال ذلك الطلب عام 2009، بذريعة الحفاظ على المكانة التاريخية للمنطقة، وذلك ما يثبت أنّ الاحتلال في تعامله مع حي البستان، لم يغادر النظر إليه من نظارة السردية التاريخية الأيدولوجية “الإسرائيلية” التي ترى في الحي (وادي الملك) وتتجاهل الحقائق التاريخية، حول عربيته وإسلاميته.
2009 .. محاولة اقتلاع أهالي البستان
لم تكتفِ سلطات الاحتلال برفض المخطط الهيكلي الذي قدمته لجنة أهالي حي البستان عام 2009، بل قدمت مقترحاً لأهالي الحي بنقلهم للإقامة في بلدة بيت حنينا شمال القدس، وواجه أهالي الحي هذا المقترح بالرفض التام، الذي أفشل محاولة الاحتلال الثانية لتهويد الحي، وتنفيذ سياسات التهجير القسري بحقِ أهاليه.
وفي العام 2010، قدّمت ما تسمى بـ”سلطة الحدائق الوطنية” التابعة لبلدية الاحتلال، مخططاً جديداً تحت اسم (حديقة وادي الملك) (عيمق تسوريم) لضم حي البستان بالكامل للحدائق التوراتية المحيطة بأسوار المسجد الأقصى المبارك، وتم التصديق عليه من قبل “لجنة التخطيط اللوائي”.
خيمة الصمود
مارس أهالي حي البستان خلال تصديّهم لمحاولة الاحتلال الثانية لتهجيرهم قسرياً، أشكالاً من المقاومة الشعبية والحراك الجماهيري؛ في سبيل التصدي لمحاولات التهجير، حيث أقام أهالي حي البستان خيمة اعتصامٍ في الساحة الرئيسية في الحي، سُميّت بـ”خيمة الصمود”، وباتت تلك الخيمة رمزاً من رموز الرفض والصمود في المخيم، إذ كانت ولا زالت مكاناً للاعتصام وإقامة صلاة الجمعة، في كل مرةٍ كان يتعرض خلالها حي البستان للتهديد والاستهداف.
حي البستان اليوم
منذ بداية هذا العام، توقفت محاكم الاحتلال عن تمديد ووقف وتجميد أوامر وإجراءات الهدم، لكن أُعيد قبل أيّام فتح موضوع البستان، وتهديدات بالهدم نهاية هذا العام، يوضح أبو دياب طبيعة الواقع الذي يمر به حي البستان اليوم، ويقول: “خلال الشهر القادم، سيكون حي البستان على صفيح من نار، خاصةً أنّ التهديد الآن يترافق مع الظروف الدولية والإقليمية، فهي فترة ذهبية للاحتلال لكي يفرض وقائع جديدة على القدس”.
ويضيف: “قد يكون حي البستان لنتنياهو واليمين المتطرف رافعا في الانتخابات القادمة، ولذلك يعيش أهالي حي البستان، اليوم، في حالة قلق، فهم عاشوا فترةً سابقةً طويلةً من القلق والضبابية والتخوف، لكن الآن بدأت تزداد هذه المخاوف من جديد، وأصدرت بلدية الاحتلال فعلاً، أوامر ومخالفات ضد كل المنازل في حي البستان منذ العام 2005، بادعاء أنّ هذه المنازل غير قانونية، وقد غرمنا بمئات آلاف الشواقل لغاية الآن، وحقيقةً نحن في حي البستان قلقون جداً، وهناك تخوف، ربما أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من الهدم من قبل بلدية الاحتلال”.