الأسير المحرر أحمد شويكي.. طفولةٌ معذبة وتفاصيلٌ مؤلمة خلف القضبان
القدس المحتلة- القسطل: اعتُقل طفلاً حينما كان بعمر (14 عاماً)، وعاد رجلاً بعمر (34 عاماً)، حُرم خلالها من تفاصيل كثيرة ومن أبسط الحقوق، كيف لا وهو الذي قال والدموع تملأ عينيه “ما كنت أعرف إنه طعم الحريّة هيك.. كثير حلو”.
الأسير المحرر أحمد شويكي من حي الثوري ببلدة سلوان، يُعتبر أقدم أسير يعتقله الاحتلال طفلاً عام 2002، ويمضي هذه المدّة الطويلة في سجون الاحتلال.
عانق حريّته في السابع من شباط/فبراير الجاري، بعدما قضى عشرين عاماً في زنازين الاحتلال التي تفتقر لأدنى مقومات الحياة، ولغاية هذه اللحظة لم يُصدق أنه يستطيع الخروج من غرفته ومنزله متى أراد، ويشعر بأنه “في حلم”، كما وصف.
في لقاءٍ معه ضمن برنامج “بروفايل أسير” الذي يُعرض عبر شبكة “القسطل“، وتقدمه الإعلامية لمى غوشة، روى شويكي تفاصيل مؤلمة وصادمة عن طفولته المُعذبة خلف القضبان، وعن شعوره عندما عانق الحريّة.
حلمٌ وحريّة
يقول لـ “القسطل” بنبرةٍ حزينة وفرحة في الوقت ذاته: “لحظة الإفراج عنّي كانت نوعاً من الخيال.. أنا أشعر اليوم كأنّي في حلم.. كل يوم أنام وأنا خائف أن أستيقظ وأجد نفسي في السجن.. لم أتوقع أن يكون للحريّة كل هذا الجمال”.
ويُبيّن أن كل شيء بمخيلته كان أصغر من ذلك، ولكن عندما عانق حريّته اكتشف أن الأشياء كبيرة، واسعة، مختلفة، وقد تغيرت عمّا كانت عليه عندما كان طفلاً لا يتجاوز الـ14 عاماً.
مردداً: ” كل الحياة كنت أتعرف عليها من خلال التلفزيون.. ما توقعت بيوم إني أشوف شارع من كيلومترات، أنا أكبر مسافة مشيتها خلال اعتقالي عشرين متر.. ما توقعت بيوم إني أمشي على طريق مزفتة.. كل شيء كان إله قيمة كبيرة.. لما سلمت على أمي وأخواتي تفاجأت إني صرت أطول منهنّ.. زمان كنت أشوف سقف بيتنا عالي، تفاجأت إنه قصير ومنخفض.. لغاية هذه اللحظة أنا لا أُصدق وكأني في حلم”.
“شعرتُ بالخيانة”..
وعن لحظة الإفراج عنه، يُحدّث شويكي “القسطل” قائلاً بغصّة: “كانت صعبة للغاية.. لم أتوقع يوماً أن أُفارق أصدقائي وأخواني في الأسر.. لطالما حلمنا سوياً أن نغادر السجن مع بعضنا البعض من خلال صفقة.. بقينا دائماً على أمل”.
وبكلماتٍ صادقة، عفوية، ومؤلمة يوضح شويكي أن شعوره في الشهر الأخير له خلف القضبان، كان صعباً للغاية، تذوق خلاله مرارة الفراق والفُقد، كيف لا وهو الذي يجيب أنه مكان ولادته هو “السجن”.
ويستكمل: “في الشهر الأخير بدأت بشعور الفراق عن الإخوة.. كان معي نحو 40 شخصاً عشت معهم أكثر من 10 سنوات.. كل يوم كنت أتعذب على فراقهم.. لم أشعر بالفرح، كنت خجلاً من النظر إلى عيونهم”.
أما عن يومه الأخير، الأصعب، هُنا يحتفل الأسرى بمعانقة شويكي الحريّة وسط مشاعر مليئة بالفرح والسعادة، لكنّ شعوره مختلفٌ تماماً، فهو يصف ذلك بالخيانة وقال: “كشخصٌ خائن وفي عزاء”.
“اليوم الأخير قبل خروجي من السجن كان الأصعب.. قاموا بعمل حفلة وداع لي، كانوا فرحين جداً، أما أنا كنت أشعر أنني بعزاء.. لم أستطع النوم.. أخبرتهم أنني أشعر أنّي أخونهم.. تماماً كمجموعة أشخاص سقطوا من طائرة، ونجى منهم شخصاً واحداً فقط وهو أنا”.
يصمتُ شويكي قليلاً، يبكي على البث المباشر بدموعٍ خجلة، ويتابع متألّماً: “وضع السجون صعب جداً.. قبل مغادرتي بيومٍ واحد، أعلنت إدارة السجون أنها ستقوم بفرض عقوبات وسحب 50% من الإنجازات.. الأسرى منذ 13 يوماً يتعرّضون لإجراءاتٍ عقابية كثيرة، ويعيشون في ظروفٍ اعتقالية صعبة”.
وأكد في حديثه أن الأسرى والأسيرات خلف القضبان يخوضون إضرابات طويلة، فقط من أجل الحصول على أبسط حقوقهم، مضيفاً: “امتنعنا أياماً طويلة عن تناول الطعام فقط من أجل إضافة منتج صغير من المقصف “الكانتينا”، أو إضافة قناة على التلفاز”.
“إهانةٌ وذُلّ، فحصٌ دوري، منعٌ من الزيارات، بردٌ قارسْ، وتفتيشٌ عاري”، بهذه الكلمات يوضح شويكي بعض ما يعانيه الأسرى والأسيرات خلف القضبان، واصفاً أن شعورهم يُشبه شعور الإنسان الحُر فترة انتشار فيروس “كورونا” وإعلان حالة الطوارئ.
ويتابع: “لا أذكر أنني نمت يوماً واحداً خلال السنتين الأوليين من اعتقالي من غير جوع.. عندما كنت أشاهد الوقفات التضامنية مع الأسرى وأرى 100 أو 50 شخصًا كان هذا الشيء يجرحني.. نحن ناضلنا من أجل شعب كامل.. الحمدلله كل ذلك أجر عند رب العالمين”.
ومن شدة الألم، يُضيف: “اليوم أكلت فاكهة لم أرها منذ 20 عاماً.. أول أمس تناولت كبدة دجاج لأول مرة منذ 20 عاماً.. عانيت 20 عاماً من ألم الأسنان.. هذه حياة كل أسير، كل ظروف السجن مأساة”.
وفي رسالتهم من خلف القضبان، يُبيّن شويكي أن الأسرى يُطالبون بحريّتهم، الإفراج عنهم بأقرب وقت، الالتفات لقضيتهم بشكلٍ جديّ، عدم التقصير معهم، المشاركة في الوقفات التضامنية معهم وعدم ترك عائلاتهم وحدها.
طفولةٌ مُعذبة
بالعودة ليوم اعتقاله قبل عشرين عاماً، يروي شويكي أنه كان مع أصدقائه الأربعة، بين بلدتي جبل المكبر وحي الثوري في سلوان (جنوباً)، في حينها اقتحمت قوات كبيرة من جنود الاحتلال المنطقة بمساعدة الطيران، وأطلقت صوبهم النيران.
قُتل أحدهم، بعضهم أُصيب برصاص الاحتلال وآخرون نجوا من الموت جرّاء الاعتداء عليهم بالضرب المُبرح، سواء خلال الاعتقال أو خلال التحقيق معهم.
يسترجع بذاكرته تلك التفاصيل التي لا يستطيع نسيانها مهما مرّ عليها وقت، ويقول لـ "القسطل": “عندما بدأت انتفاضة الأقصى عام 2000، لم أكن أعلم شكل علم فلسطين.. مع الانتفاضة بدأت أُدرك هذه المصطلحات والأحداث، بدأنا نكبر ونتعلم ونغار على وطننا، وبدأنا بتنفيذ عمليات فدائية”.
ويضيف شويكي: “في عام 2002 قُتل أحد المستوطنين إثر إحدى العمليات الفدائية، في حينها، اقتحمت قوات كبيرة من الشرطة والجيش بمساعدة الطيران المنطقة، وأطلقت علينا الرصاص بشكلٍ كثيف.. لم نستطع الفرّ.. لم نكن نعلم أن هذه القوات جاءت لاعتقالنا”.
لم تكتفِ قوات الاحتلال بإصابة شويكي بأربع رصاصاتٍ بيده، بل كسروا له إياها، وقيدوه، وبعد نحو عشر دقائق، أحضروا صديقه الشهيد سامر أبو ميالة، كان مكبل اليدين والقدمين وعاري الجسد، وعينيه مفتوحتين لا تكفّان عن النظر إلى شويكي، كما وصف.
“أحضروا سامر ونظروا لي.. لم أكن أعلم أنه استشهد.. كنت أعتقد أنه لا يريد محادثتي خوفاً منهم.. بعد 29 يومًا علمت أنه شهيد عندما جاء شقيقه إلى السجن”.
ويُبيّن شويكي بغصّة أنه تعرّض لتحقيقٍ قاسٍ في مركز “المسكوبية”، تخلله الشبح والضرب بكافة أشكاله رغم إصابته، لساعاتٍ طويلة ولمدة شهر.
احتُجز شويكي في زنزانةٍ تفتقر لأدنى مقومات الحياة والعيش الآدمي، فكر خلالها طويلاً بالفترة التي ستحكمه إياها محكمة الاحتلال، وكيف سيصبر وسيتحمل كل ذلك الوقت.
طفلٌ صغيرٌ لم يكن يعلم ما هو السجن، وما هو التعذيب، وبدلاً من أن يعيش طفولةً جميلة، أصبحت ذكرياته مرتبطة بالمعتقلات ومراكز التوقيف والاعتداءات بالضرب من قبل جنود الاحتلال وغيرها من التفاصيل المؤلمة.
يسترجع شويكي أفكاره في حينها ضاحكاً، ويردف: “كنت أتعامل ببساطة جداً وتوقعت أن يتم الحكم علي لفترة قصيرة لا تتجاوز الـ 6 أشهر، لغاية أن أخبرني المحامي بأنني من الممكن أن أُحكم 5 سنوات، غضبت وتفاجأت”.
وبعد نحو عام، حكمت محكمة الاحتلال عليه بالسجن لمدة 20 عامًا، بقي خلالها على أمل التحرر بإحدى الصفقات.
وظل يردد: “فكرة وجود صفقة كانت تمنحنا الصبر.. بقينا على أمل أن السجون لن تتسع لآلاف الأسرى.. عندما التقينا بالأسير مروان البرغوثي قال لنا سنلتقي عام 2005 معاً خارج السجون.. عشنا على أوهام للأسف الشديد”.
“على بوابة مطحنة الأعمار”
20 عاماً صُقلت خلالها شخصية شويكي، أدرك خلالها أن الصراع من أجل البقاء، وأن العلم من أهم الأسلحة التي يحارب بها المحتل، تخرج بتفوق من تخصص العلوم السياسية في الجامعة العبرية المفتوحة، كما تعلم تخصص التاريخ في جامعة القدس المفتوحة، وكان أستاذاً بها.
شويكي الذي لا يعرف سوى القوّة، الصمود والصبر، كتب رواية أطلق عليها اسم “على بوابة مطحنة الأعمار”، أوضح فيها كيف طُحنت أعماره داخل الأسر، بعدما دخل طفلاً إلى السجن وخرج منه رجلاً.
يقول لـ “القسطل“: “كتبت في الرواية كيف أنني استطعت تحويل الحزن والوجع لفرحٍ وصبر.. والمحنة لمنحة.. وأن اليأس مرفوضٌ فلسطينياً ودينياً وأخلاقياً.. أهم شيء التمسك بالعهد والثوابت والإدراك”.
ويضيف بإصرار وثبات: “فلسطين تستحق.. هذا أقل واجب أن أُقدم لها 20 سنة من عمري.. الوطن يستحق.. نحن على العهد والثوابت”.
وحول مخططاته في الأيام القادمة، يختتم شويكي حديثه مع “القسطل” قائلاً: “أُريد تقبل الواقع، والتعرف على من حولي.. أنا لا أعلم شيئًا بعد.. لا أعلم كيف أستخدم الهاتف أو كيف أتعامل بالمحل أثناء البيع والشراء.. الله يكتب لي الخير في أيامي القادمة”.
. . .