كيف تغنّى الفلسطينيون بـ "القدس" في الأغنية الشعبية؟
القدس المحتلة -القسطل: لو بحثت في تراث الشعوب وأغانيهم الشعبية لوجدتهم كثيرًا ما يتغنَّون بمدنهم ومعالمها كأسلوب من أساليب الفخر والاعتزاز، فتجد المصري يتغنَّى "بالإسكندرية" وسواحلها، أما اللبناني يتغزَّل "ببيروت"، وإذا ابتعدنا قليلًا نجد أن التركي أيضًا يتغنَّى "بإسطنبول"، وعلى حالهم سارت الكثير من الشعوب. هذا الحال ينطبق على المجتمع الفلسطيني كذلك، لكنه شابههم في الأصل وتفوَّق عليهم في التفاصيل، وذلك للخصوصية التي تتمتع بها القدس أو للظروف التي تعيشها أيضًا. فتجده يضع القدس بين دفتي كل كتاب، وفي ثنايا كل كلام، وفي أسطر كل أغنية شعبية كانت أم وطنية، فوَصَفها بأوصافٍ دقيقةٍ، وعدَدَ بأغانيه معالمها وأحياءها وشوارعها وميادينها، كما لم يفعل أحد مثله من قبل. "القدس وشوارعها وسماها أجمل مكان.. ميل عنا واسأل عنا إحنا للكرم عنوان" إن أكثر ما تميزت به القدس كان في أغاني الأعراس الشعبية والفلكلور الفلسطيني الممتد من شمالها لجنوبها، خاصةً في القرى الفلسطينية، حتى تكاد تجد اسمها في كل تفصيلةٍ من تفاصيل العرس، في الزّفّة، والطلعة، ووصف جمال العروس.
ففي باب الغزل ووصف جمال المرأة تقول الأغنية الشعبية الفلسطينية التي تُرددها النساء في الأعراس على أصوات الطبلة وبلهجةٍ فلاحية خالصة: "شالت على الكُدِس وحطَّتْ على الكدس.. حلوة يا أم اللبس ردي الغرة مالت" أما عن اللِّباس والتغنّي بالجمال الذي تضفيه ملابس الأعراس الفلسطينية على النساء، وما يتجاوز ذلك من الفخر بالفدائيين والأسرى في سجون الاحتلال خاصة إن كان الفدائي أو الأسير أحد أقارب العروسين، فتُردد النساء: "قولوا لاخت الفدائي تلبس لبس.. وأنا اخوي فدائي بسجن القدس" وتتنقل الأغنية الشعبية الفلسطينية في الأعراس بين أجزاء العرس وتفاصيله، فبعد أن تتغنَّى بجمال المرأة في الحفلات التي تُقام داخل المنازل ويحضرها أقارب العروسين وأصدقاؤهم، تنتقل الأغنية إلى زفّة العريس في الشارع والذي يُطلق عليها مسمى "الفاردة"، فوُصفت بها القدس وشوارعها وصفًا تفصيليًا فتبدأ من القدس بشكل عام بالقول: "على القدس ميّلَ عريسنا على القدس ميَّل ويا لالا.. ومن القدس بيطُّلُّوا سباعنا ومن القدس بيطّلُّوا ويا لا لا" تسير الزّفّة قليلًا فتصل إلى ساحة باب العامود، مع أنها فعليًا قد تكون تسير في شوارع طولكرم أو قلقيلية أو غزة حتى، لكن النساء يُرددن: "عددوا المهرة ورشوا الورودي .. زفولي محمد لباب العامودي" وعلى ذكر باب العامود، هذه المنطقة التي حفرت اسمها في ذاكرة كل من يعرف القدس، فقد كان لها حالة خاصة في الأغنية الشعبية الفلسطينية، تماماً كما لها حالة خاصة في الصراع مع الاحتلال، تحديداً ما شهدته القدس خلال الأعوام القليلة الماضية: "يا رايحين عالقدس خذوني معاكم.. لدعي لربي وأقول ربي يحماكم
مروا من باب العامود بالكوفية الغالية... شوفوا حضارة الجدود والقامات العالية" ولهذا لا تستغرب إن وجدت جلسات الأصدقاء في باب العامود، والمشي تحت مدرجه، والمرور من داخل بابه العملاق، وشرب القهوة على درجاته، ورائحة الفستق المحمص مُوَّثقًا في الأغنية الفلسطينية: "نازِلِكْ وبحاراتك قلبي موعود .. بستنى أصحابي ننزل باب العامود
وبفيات القناطر جوات السور .. ريحة فستقها سلمى وقهوة عبود". عودةً إلى زفّة العريس من جديد وبعد الخروج من باب العامود، تنتقل بنا الأغنية الشعبية الفلسطينية إلى باب الأسباط، فتُردد إحدى النساء بلهجةٍ فلاحية وبصوتٍ به شيء من البحَّة وكِبّر السن: "عددوا المهرة ونادوا خياتي .. زفولي محمد لباب الأسباطِ" هل تعبت من طريق الزّفّة التي تجوّلت بك في شوارع القدس وميادينها؟ إن تعبت فعلًا فالأغنية الشعبية الفلسطينية تعطيك الحل كذلك:
"على طريق القدس ياما مشينا.. وإن تعبت الرجلين نمشي على أيدينا" ولم تغب القدس كذلك عن فقرة الحناء الغنيّة في الفلكلور الفلسطيني بالأغاني والأهازيج الشعبية الجميلة.. "سبّل عيونه ومدّ إيده يحنّوله... غزال صغيَّر وكيف أهله سمحوله وش هالغزال الي عن دارنا مارق.. خصره رقيق وبالعسل غارق شيعوا لاولاد عمه ييجوله.. بالخيول المبرقعة يطاردوله عددوا المهرة وهاتو البارودة.. زفولي محمد لباب العامودي بالهنا يا ام الهنا يا هنية والتوَّت عيني على الشلبية" وعن زيارة الأقصى والقدس المليئة بالمتاعب وبرحلةٍ من العذاب، خاصةً لمن هم خارج القدس، فلم تغب الأغنية الفلسطينية كذلك، ووثقت هذا العذاب أجمل توثيق حتى وصفت محاولات دخول القدس المستمرة من الحواجز المختلفة المحيطة بها، ومحاولات دخول الأقصى من جميع الأبواب بـ "طواف العبد حول المعبود". "تتذكر آخر رحلة بآخر مرة.. بعدوا سدوا البوابة وكسروا الجرة بعديها صرنا نلفلف عـ البراري.. زي العبد بيطوف حوال المعبود" لم تكن هذه الأغاني التي ذُكرت بها القدس فقط، لكنها جزء قليل من لون الأغاني الشعبية الفلسطينية في الأعراس التي تتردد في كل بيت فلسطيني، وفي المحصلة: "وقفة بطل خليك واقف للأزل يا قدس إنتا المجد مكتوب بغزل وقفة بطل هز الأرض بخطواتك وجبينك عالي .. عالعدا سطوااااتك . . يا قدسي إنتا التاج للعروبة نخوة وشهامة والعزة المهيوبة وقت الشدايد إنتا عز رجالها زنود كالبارود شوفوا أفعالها وجباه سمرة الشمس حضنتها بقُبَل مثل الصقر العيون شامخ كالجبل" هكذا يرسم الفلسطيني خريطة حبّه للقدس، بالدم تارةً وبالسجون تارةً أخرى، بالقلم وبالهتّاف وبالحُبّ القلبيّ الذي يُترجمه إلى أهازيج تقول له في كل مناسبة: "أنت ملح الأرض وتربتها الخصبة ونبعها الصافي".