"إسرائيل" تسعى لتكريس سيادتها الدينية على الأقصى
من الواضح بأن السلوك الإسرائيلي الجديد تجاه المسجد الأقصى يؤشر إلى أن دولة الاحتلال،في معركة السيادة والسيطرة على المدينة المقدسة، وتكريس مفهوم أن القدس "العاصمة الأبدية" لدولتها، وترجمة اعتراف الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالقدس عاصمة لدولتها، لا يمكن لها تحقيق ذلك بدون السيطرة على المسجد الأقصى.
والحكومة الإسرائيلية الحالية القادم رئيس وزرائها نفتالي بينت من الصهيونية الدينية، لديها خطة ممنهجة ومدروسة لتكريس سيادتها على المسجد الأقصى، ليس فقط عبر تكريس المصطلحات التلمودية والتوراتية بالقول إن المسجد الأقصى هو "جبل الهيكل" أو "بيت همكداش" أي "بيت الرب أو الهيكل"، بل نحن نشهد تسارعًا في عمليات التهويد للمسجد الأقصى والسعي من أجل تغيير طابعه الديني والقانوني والتاريخي، وتكريس التقسيمين الزماني والمكاني.
إن هذه الحكومة المترنحة والتي تعيش أزمة سياسية عميقة، تدرك بأن الجماعات التلمودية والتوراتية في المجتمع الإسرائيلي، أصبحت قوة كبيرة لا يستهان فيها، بل أصبحت مقررة في السياسة الإسرائيلية،بعدما غادرت الأحزاب التاريخية المسرح وتلاشى بعضها، كنتاج لموت السياسة في دولة الاحتلال، ولذلك هذه "الداعشية" اليهودية تقول لبينت وغيره من قادة الحكومات الأخرى التي قد تأتي على خلفية سقوط حكومة بينت، بقاؤكم في الحكم مرهون بأيدينا نحن، ولذلك عليكم الاستجابة لشروطنا وإملاءاتنا.
ومن هنا نجد بأن مشروع فرض إسرائيل لسيادتها الدينية على المسجد الأقصى يتقدم، في ظل تراجع للوصاية الهاشمية على الأقصى والسعي الإسرائيلي المستمر لتجويفها وتفريغها من محتواها، والضغط على الحكومة الأردنية لقبول شراكة إسرائيلية وعربية، كمقدمة لنزع هذه الوصاية وكذلك تجريد الأوقاف الإسلامية من إشرافها الإداري على الأقصى.
فدولة الاحتلال بدأت في السيطرة على حائط البراق لإقامة الصلوات التلمودية والتوراتية، ومن ثم انتقلت إلى الدخول للمسجد الأقصى ضمن الزيارات الأجنبية له من باب المغاربة الذي سيطرت دولة الاحتلال على مفاتيحه بعد حرب عام 1967 مباشرة، ومن بعد الانتفاضة الشعبية الثانية في أيلول 2000، ومنع دخول السياحة الأجنبية واليهودية إلى الأقصى حتى عام 2003.
تلك الزيارات التي كانت تجري عبر دائرة الأوقاف الإسلامية، أقدمت حكومة الاحتلال على مصادرة دورها، وأصبحت هي من يتحكم بإدخال الجماعات التلمودية والتوراتية إلى الأقصى، وكانت عمليات الاقتحام تتم في البداية في مجموعات صغيرة وضمن مسار محدد بمرافقة شرطة الاحتلال دون أداء لأي من الطقوس التلمودية والتوراتية.
ولكن شيئا فشيئاً، أصبحت تلك الاقتحامات تكبر وتزداد عدداً تحت شعار بأن هذا بيت الرب أو جبل الهيكل، وهو أقدس مكان ديني عندهم.
وفي البداية كانت تجري الطقوس التلمودية والتوراتية بشكل فردي ومن ثم انتقلت إلى طقوس تلمودية جماعية، يقرأ فيها فقرات من التوراة ومن سفر "ايستر" بشكل صامت.
هذه العمليات المتواصلة لتكريس سيادة إسرائيل الدينية على الأقصى، تسارعت بحيث بات الأقصى يتعرض لموجات من الاقتحامات يقف على رأسها حاخامات ووزراء وأعضاء كنيست، في إطار الصراع والتنافس بين الأحزاب الإسرائيلية، أيهما أكثر إخلاصاً للمشروع الصهيوني ووصايا ما يعرف بالأباء المؤسسين، حتى أن السفير الأمريكي السابق في دولة الاحتلال المتصهين "ديفيد فريدمان" ،كان يقول إنه أكثر إخلاصاً للأباء الصهاينة المؤسسين من بعض القيادات الحزبية الإسرائيلية.
الجماعات التلمودية والتوراتية بدأت بالتقدم بمشروعها لفرض سيادتها الدينية على الأقصى، بحيث أصبحت قاب قوسين أو أدنى من تحقيق هذا الهدف، من خلال القيام باستحضار ما يسمى بالهيكل المعنوي، بحيث يجري أداء الطقوس والصلوات الجماعية بشكل صامت وبقراءة فقرات من التوراة، والقيام بكل ما يتصل به من شعائر وطقوس مثل النفخ في البوق، و"السجود المحلمي"، وانبطاح المتطرفين على وجوههم، كأعلى أشكال الطقوس التلمودية والتوراتية.
منع التقدم بهذا المشروع نحو فرض السيطرة الدينية على المسجد الأقصى، جاء كنتاج لصمود وصلابة الحلقة المقدسية وما يتصل بها من دعم وإسناد بشري وحضور فاعل في الميدان من قبل أهلنا وشعبنا في الداخل الفلسطيني المحتل، وكذلك تدخل المقاومة في قطاع غزة "معركة سيف القدس".
في ظل تنامي" الداعشية" اليهودية وتحكمها في مفاصل القرار السياسي الإسرائيلي، وفي ظل غياب الأحزاب الوازنة في المشهد السياسي الإسرائيلي، وفي ظل الأزمة السياسية العميقة التي تعيشها حكومة بينت، التي باتت تفتقر إلى الأغلبية في الكنيست الإسرائيلي، بسبب انسحاب "عيديت سيلمان" من رئاسة الائتلاف لحكومة "التغيير"، وفي ظل عدم القدرة على استعادة هيبة الردع، وهذا ما شهدناه في إصابة منظومة الأمن الإسرائيلي في عصبها الرئيسي، حيث العمليات الفلسطينية الأربعة التي نفذها شبان من الداخل الفلسطيني ومن الضفة الغربية، أظهرت هشاشة تلك المنظومة وسهولة اختراقها، وكذلك فقدان الجمهور والمجتمع الإسرائيلي ثقته بالحكومة وسياساتها وقدرتها على توفير الأمن الشخصي لمواطني دولة الاحتلال.
وفي ظل تزامن الأعياد اليهودية مع شهر رمضان الفضيل، وجد بينت القادم من الصهيونية الدينية نفسه، في خانة الاصطفاف خلف تلك الجماعات التلمودية والتوراتية، والسماح لها بالقيام بعمليات اقتحام للأقصى في الأعياد اليهودية وإدخال قرابين الفصح لباحاته.
هذا القرار الذي يراد منه فرض السيطرة الدينية اليهودية على الأقصى، وتثبيت حقائق جديدة تقوم على أساس التقسيم الزماني والمكاني للأقصى، وبما ينزع القدسية عن الساحات للعامة للأقصى، ويبقي على المسجد القبلي باعتباره المسجد الأقصى.
وبينت يعرف أنه غير قادر على منع "تغول" و"توحش" تلك الجماعات التلمودية والتوراتية على الأقصى والمقدسيين، وأن أي معاداة او صدام معهم في هذه القضية على وجه التحديد، سيوفر السلاح الإستراتيجي لنتنياهو وأحزاب اليمين من خارج وداخل حكومته من أجل إسقاط حكومته.
ولذلك كانت "غزوة" الأقصى يوم الأحد الماضي 17/4/2022 واقتحام المسجد القبلي في تجاوز سافر لكل الخطوط الحمر، حيث كان التدنيس للسجاد والتكسير للزجاج والأبواب والثريات الأثرية، واعتقال بطريقة وحشية لمئات الأطفال والشبان المعتكفين في المسجد القبلي، بعد ذلك تواصلت عمليات الاقتحام، وارتفع منسوب إمكانية تفجر الأوضاع وعودة شبح معركة "سيف القدس" التي جرت في أيار من العام الماضي، وكذلك التهديدات بالتدخل العسكري لصالح القدس والأقصى من قبل فصائل المقاومة وأجنحتها العسكرية في قطاع غزة، ارتفعت وتيرتها.
وتحت ضغوط صمود المقدسيين ومن تواجد معهم في الميدان والأقصى من أبناء شعبنا، وتهديدات مقاومة القطاع، اضطر بينت لمنع المستوطنين من اقتحام الأقصى في الأيام العشر الأخيرة من شهر رمضان.
وردت عليه تلك الجماعات المتطرفة بتنظيم مسيرة أعلام من غرب القدس باتجاه باب العامود والبلدة القديمة، ولكن جيش وشرطة الاحتلال، قيدت حركتها ومنعتها من الوصول إلى باب العامود، واعتبر كل من "يائير جولان" نائب رئيس أركان جيش الاحتلال أن عضو الكنيست ايتمار بن غفير يمارس ألاعيبه على حساب دم اليهود وأبنائهم، في حين رئيس الوزراء اليميني الديني الاستيطاني نفتالي بينت قال علانية بأنه "لن يسمح لسياسات بن غفير الضيقة بأن تعرّض أمن إسرائيل للخطر".
المستوى الأمني والعسكري والسياسي لا يريد معركة مفتوحة مع الشعب الفلسطيني عنوانها " القدس والأقصى"، توحد كل الساحات الفلسطينية، قدس وغزة وضفة غربية وداخل فلسطيني، وهذه المعركة قد تجر إلى تدخل غزة والداخل الفلسطيني لصالح القدس، ويعني أن جيش الاحتلال سيقاتل على أكثر من جبهة، وهو الذي يريد التفرغ لجبهة الضفة الغربية، حيث هناك متغير كبير ،وبما يحمله من خصوصية تجاه منظومة الأمن القومي الإسرائيلي.
ولعل الجميع بات يدرك أن معركة التهويد وفرض السيادة الدينية الصهيونية على القدس والمسجد لم ولن تنتهي بإفشال مسيرة الأعلام ، بل هي حرب مستمرة، لكن في السياق ذاته، من المهم الإدراك أنَّ معادلة القوة، والقوة فقط، تستطيع تغيير السلوك الصهيوني في القدس.
. . .