اللغة العبرية.. التمييز اللغوي العنصري!
الفرق بين المتوفى والميت هي حقيقةٌ مهمةٌ تناولها العلماء وأخذوها بعين الاعتبار من خلال تفسير الآيات القرآنية الكثيرة التي تحدثت عن الموت والوفاة والتي بيّنت لنا الفرق بينهما: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى). (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ). (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ). والوفاة التي وردت في الآيات الكريمة السالفة الذكر، تعني قَطعُ التصرف بالحركات الاختيارية، وأحدُ أشكالها هو النوم. يقال للرجل (وفّى ماله من المدين) أي استوفاه كاملاً غير منقوص، أي قَبَضَهُ وأخذَهُ، فلمّا يقال: توفي فلان، وكأنه قُبِضت روحه كاملةً غير منقوصة.
أما الموت، فيقعُ مرةً واحدةً، وهو خروج روح الكائن الحي سواءً كان إنساناً أم حيواناً أم نباتاً، دون عودة. فكلُ كائنٍ حيٍ في هذه الأرض له روحٌ تُنتَزعُ فتَخرجُ ويتوقف بخروجها عنصرُ الحياة فيه لينتهي الأجل. والموتُ هو مفارقةُ الحياة وليس فيها معنى القبض، ولذلك يُستعمل لفظ الموت أحياناً استعمالاً مجازياً فيقال: "ماتت الريح"، أي سكنت وهَمَدَت.
والذي ينامُ مستغرقاً يقالُ له "مات فلان"، إذا نام نوماً عميقاً مُستغرقاً. والموتُ هو للكائنات جميعها، بينما الوفاة للثقلين وحدهما من إنسٍ وجان دون غيرِهما، لأنها لا تقع إلا على من هو مكلفٌ عاقل.
هذه الفروق في الدلالة والاستعمال، نجدها كذلك، لكن بصورةٍ عنصرية، في اللغة العبرية. وبحسبها فإن נפטר (نفتار) "توفي" تعني (أعفيك من وصاياك)، وبالتالي لا تُستخدم إلا إذا كان الشخص الذي مات يهودياً، (יהודי נפטר, גוי מת) (اليهود يتوفاهم الله بينما الأغيار يموتون). وهو مبدأ دينيٌ بحت راسخٌ في المصادر اليهودية، فاليهودي يطيع الأوامر الإلهية طوال حياته، وفي موته يُرفعُ عنه التكليف، لذلك فهو "يتوفى"، وهو اختصار لعبارة "أعفيك من الوصايا"، أما "الأغيار"، من ناحيةٍ أخرى، فهم غير ملزمين بالوصايا، وليس لديهم ما يتخلصون منه عند موتهم، وبالتالي فمن الخطأ القول أنهم "توفوا".
وقد تطورت اللغة العبرية الحديثة المنطوقة جنباً إلى جنب مع الحركة القومية اليهودية، ومع تطور الصراع على الأرض، ونَمَت معها العنصرية المعادية للأجانب والمتحيزة أيديولوجياً لمتحدثيها. على سبيل المثال، فاليهودي (היהודי) ليس "عاملاً" אינו "פועל" بل "موظفاً" אלא "עובד", وليس "تاجراً" אינו "סוחר" بل "رجلَ أعمال" אלא "איש עסקים"، وهكذا. وكلمة "גוי" "الأغيار" أي "غيرَ اليهود"، التي يستخدمها اليهودي لوصف بقية الأجناس البشرية، تؤسس لعلاقةٍ غيرَ مُتكافئةٍ وغيرَ مُتسامحةٍ بين اليهودي وغير اليهودي، فغير اليهودي هو من "الأغيار" في نظر اليهودي، لكن اليهودي ليس من "الأغيار" في نظر غير اليهودي.
والأسوأ من ذلك كله هو الجمع بين الأثنين، التحيز اللغوي الديني- القومي، وهذه هي الطريقة التي يتجذّر من خلالها الرأي القائل بأن اليهودي وغير اليهودي يختلفان عن بعضهما البعض ليس فقط في حياتهما، بل وفي مماتهما: اليهودي "يتوفى" ، وغير اليهودي "يموت" ولا يتوفاه الله!.
هذا التمييز اللغوي المُريب يعترف به بعض اليهود دون تردد: "الأغيار والكلاب يموتون، واليهود يتوفون". هذه المفاخرة بالعنصرية العميقة، والتي نعرفها جيداً، تضع غالبية الجنس البشري في نفس المستوى الأدنى مع الحيوانات، وتُميزهم عن الطبقات العليا. وكأنهم يقولون لنا أن كلمة "توفى" هي أكثر دقةً من كلمة "ميت"، في محاولة مقيتةٍ لإفهامنا أن موتَ اليهودي محزنٌ، في حين أن موت "الأغيار" يجلب نِعمةً للعالم!.
هذه الثرثرة الدينية القومية تُقدّم لنا التمييز اللغوي على أنه مسألةٌ دينية محايدة، فقد اختار الإله الذي خلق الإنسان، أن يفرض "الوصايا" على اليهود فقط، ولا يوجد شيءٌ يثير الإساءة والتحييز هنا، وبالتأكيد لا توجد عنصرية هنا!. ثانياً، إن سياسة التمييز تنتفي هنا، من خلال عرضها على أنها مسألة تتعلق بقواعد اللغة العبرية السليمة، تماماً مثلَ الفرق بين "ثلاث" و "ثلاثة". فالمُتكلم الذي لا يميز بين مفردات "الموت"، لا يُنظرُ إليه على أن لديه نظرةً استعلائية مختلفة للعالم، لكنه ببساطة شخصٌ لا يعرف قواعد اللغة ولا يتقن مصادرها!.
صحيحٌ أن العربية فيها استعمالٌ مختلف لكلمتي "مات" و"توفي", لكنّ هذا التباين في الاستعمال لواحدةٍ من الكلمتين يعتمد على "ذائقة المتكلم" وليس استعمالاً مُمنهجاً استعلائياً مقصوداً، كما هو الاستعمال في المثال العبري. ولا ريب كذلك، أن لغة السياسية اليوم، وفي الاستعمال الإعلامي الصحفي على وجه التحديد، وفي العربية، كما الانجليزية والعبرية، تستخدم مفردات (مات/מת/died) عند موت غريبٍ أو نكرةٍ أو عدوٍ لتبدو فيها أقل تعاطفاً، في حين تستخدم (توفي/נפטר/passed away)، لإظهار احترامٍ وتعاطفٍ أكبر عند موت شخصية معروفة/ أو أناسٍ ممن "ينتمون لمجموعتنا".
لم يَنجُ المجتمع "الإسرائيلي" كذلك داخلياً من هذا التمييز أو الاستعمال الاستعلائي للغة العبرية تجاه اليهود أنفسهم من قومياتٍ مختلفة. فالمجتمع "الإسرائيلي"، كما نعلم، هو مُجتمعُ هجرة، يضمُ في داخله العديد من المهاجرين والثقافات. يُطلق على اليهود المتدينين في منطقة القُدس، وغيرها، اسم "ڤزافز" فمن أين أتت هذه التسمية، ولماذا تُستخدم؟. كلمة "فوزفوز" (ווזווז) هي لقبٌ تحقيري استخدمه اليهود الشرقيون (ספרדים) تجاه اليهود الأشكناز الغربيين (אשכנז) أو "السكناج"، وفيه تفخيمٌ للحروف التي تبدو أكثرَ استعمالاً في "الييديش"، اللغة التي أتى بها "الأشكناز". "وفوز" باليديش (لغة اليهود الأشكناز من ألمانيا وأوروبا الغربية) معناها "شو"، أي ماذا؟. وتحقير "فوزفوز" جاء كردة فعلٍ على لفظة تحقيرية أخرى استخدمها "السكناج" تجاه اليهود السفارديم "الشرقيين"، وهي "تشَحتشَح "הצ'חצ'חים"، والتي تُركّزُ أيضاً على الحروف التي يرى الأشكناز أنها تَغلبُ على ألفاظ اليهود السفارديم.
اللفظتان "فوزفوز" و "تشحتشح" تندرجان، لسانياً في إطار الـ "اونوماتوبيا" (محاكاة الأصوات)، وبالأساس استُخدمت هذه الكُنية ضد اليهود المغاربة، لكن المصطلح أصبح يستخدم لتوصيف الفظاظة التي تُعزى لـ "وضاعة الأصول الشرقية" في مجتمعٍ إسرائيلي تسوده العنصرية والفوقية والاستعلاء.
هذا خطابٌ يستفحل في الثقافة الإسرائيلية من حيث كونها ثقافة استعمار غربي، وواحدٌ من تجلياتها الاجتماعية مبالغة اليهود الشرقيين في لفظ حرف "غ" بدلاً من الـ "ر" (רוצה (روتسيه)، ومعناها أريد، يلفظونها (غوتسيه)، تقليداً للغربيين، أو ظاهرة صبغ الشعر بالأشقر واستخدام العدسات الزرقاء لدى النساء من أصول شرقية، للتغطية على شرقيتهم في مجتمعٍ استعماريٍ غربيٍ عنصريٍ متعالٍ.
ولعل قُدوم اليهود الإثيوبيين إلى "إسرائيل" كان حقيقة أخرى، إضافة إلى حقائق سبقت، فضحت عاهات المجتمع الإسرائيلي وكشفت "حُكمَ البيض" و "الأبارتهايد" الممارس ضدهم، حيث السبب الحقيقي في عدم استيعابهم داخل المجتمع الاسرائيلي هو "لونهم الأسود" وتقاليدهم البعيدة عن "الأشكنازية الإسرائيلية". وليس هذا فحسب، بل وإنه إذا كان اليهود الشرقيين يُعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية في المجتمع اليهودي، فإن الفلاشا يأتون في درجة متأخرة عنهم أيضا، ليضم المجتمع اليهودي بذلك طوائف الأشكيناز (الغربيين)، والسفرديم (الشرقيين)، والفلاشا (الأثيوبيين). وعلى سبيل المثال عادة ما يشار إليهم باسم (כושי) "كوشي" أو "زنجي" للدلالة على تحقيرهم وتدني مكانتهم الاجتماعية. وكلمة كوشي "زنجي" هي كلمة مصدرها "التناخ" الكتاب المقدس اليهودي، والتي تشير إلى شخص (عادةً ما يكون أسود من أصل أفريقي) ذو لون بشرةٍ داكنٍ جداً (قريبٍ من الأسود). لم يُستخدم مصطلح كوشي "زنجي" في العبرية الإسرائيلية في البداية كلقب مهين، بل كان يُستخدم أحيانًا كلقبٍ لشخصٍ ذو بشرةٍ داكنة أو أحمر الشعر.
في النصف الثاني من القرن العشرين، ومع هجرة اليهود الأثيبوبين إلى "إسرائيل" أصبحت كلمة كوشي اسماً مُستعاراً مُسيئاً، واعتبرت الكلمة الأكثر فظاظةً واستعلاءً في كنز التعابير العنصرية في اللغة العبرية المستخدمة في المجتمع الإسرائيلي. كان هذا يرجع جزئياً إلى العلاقة التي تشكلت بين كلمة كوشي، وبين المصطلح الإنجليزي "negro" "وهو لقبٌ مهين" يُذكّرُ بنضال السود من أجل المساواة والحقوق المدنية في الولايات المتحدة. يَعتَبِرُ المجتمع الإسرائيلي ككل لقب "كوشي" لقباً تحقيرياً مُهيناً يقصد به إلقاء اللوم على شخص ما بسبب لون بشرته الداكن، ووضع علامة "استثنائية" عليه تجعله أدنى من الشخص ذي البشرة الفاتحة اللون. هذا، في الواقع، تعبيرٌ عنصري فظ، يهدف إلى إذلال المدعي وتحقيره ، فقط بسبب انتمائه للمجتمع الإثيوبي ولون بشرته الداكنة!.
لا شك في أن هذا الطابع العنصري للكيان الصهيوني يمثل أحد مقدمات تفكيكه وانهياره من الداخل على المدى البعيد. ولعل الخبرة التاريخية تُعَدُ خير شاهد على ذلك، فكافة المجتمعات الاستيطانية التي نشأت على أساس عنصري، مثل نظام الأبارتهيد البغيض في جنوب أفريقيا، كان مصيرها إلى زوال.
. . .