اقتحامات الأقصى.. ما هو دور المواجهات والتصعيد في حدة النقاش حول الأمر لدى المستوطنين؟
القدس المحتلة- القسطل: أظهر مقطع فيديو بعد عملية مستوطنة "إلعاد" التي نفذها شابان فلسطينيان في مطلع مايو الجاري، وقتل فيها ثلاثة مستوطنين، نقاشا حادا بين مستوطني المستوطنة الذين يصنفون كمتدينين حريديم، وبين مستوطنين جاؤوا لمؤازرتهم، حيث وجه الطرف الأول انتقادات حادة للطرف الثاني، واتهمهم بالتسبب في العملية التي وقعت في ضوء اقتحاماتهم للمسجد الأقصى، وكان اللافت هو حديث أحد الحاخامات أن مسألة اقتحام الأقصى هي شعيرة مزيفة مستحدثة.
الخلاف على مسألة اقتحام الأقصى بين أقطاب الصهيونية الدينية ليست وليدة اللحظة، لكن يبدو أن العمليات الفدائية التي نفذها فلسطينيون بسبب هذه الاقتحامات قد زادت من وتيرة وحدة النقاشات بين الطرفين، المؤيد والمعارض.
وبالعودة عدة سنوات للوراء، يتضح أنه في أكتوبر 2015 وقع عدد كبير من حاخامات الصهيونية الدينية على رسالة تدعو المستوطنين إلى عدم اقتحام المسجد الأقصى.
الخلاف بين أقطاب الصهيونية الدينية لا يتعلق بتبعية المكان، بقدر ما يتعلق بالشروط الواجب توافرها لتحقق فعل الاقتحام. إلا أن رسالة الحاخامات التي أشرنا لها سابقاً، توضح أن مسألة اقتحام الأقصى أصبحت مرتبطة بالاعتبارات السياسية، إذ يؤيدها أطراف حتى من غير المحسوبين على الوسط الديني في جمهور المستوطنين، لكن الهدف منها هو تجريد المدينة المقدسة من رمزيتها الإسلامية وتفكيك الهالة الروحية والوجدانية لها خاصة لدى المسلمين.
الحاخامات الذين وقعوا الرسالة دعوا إلى الانصياع لحكم الحاخامية في كل قضية وخاصة في قضية اقتحام المسجد الأقصى، ودعوا كذلك حكومة الاحتلال وشرطتها إلى بذل كل الجهود لوقف التدنيس الذي يجري في المسجد الأقصى من قبل بعض الجماعات الاستيطانية، فمن وجهة نظر هؤلاء تعد الاقتحامات الحالية ليست أكثر من نوع من أنواع التدنيس.
في يوليو 2020، تكررت الدعوة ذاتها، حيث وقع مائة وخمسة وثلاثون حاخامًا على بيان يدعو إلى عدم اقتحام المسجد الأقصى، والغرض من هذا البيان هو تجديد شرعية الدعوات السابقة ضد اقتحام المسجد الأقصى من قبل كبار حاخامات الصهيونية الدينية. آخر هذه الدعوات كان توقيع عدد كبير من الحاخامات على وثيقة في مايو 2021 تدعو لعدم اقتحام المسجد الأقصى.
ينطلق هؤلاء الحاخامات من افتراض مفاده أنه في ظل وجود المسلمين في المسجد الأقصى فهذا يعني أنه لا يمكن اقتحامه من قبل المستوطنين اليهود، لأنه وبحسب زعمهم وخرافاتهم يجب أن يكون كل المكان لليهود، ولا يشاركهم فيه أحد، وإلى حين الوصول لهذه المرحلة، يجب أن يمتنع اليهود عن اقتحامه لأن ذلك قد يؤدي لوقوع مواجهات، وهذا يعني أن المكان عليه صراع وهو ما يجب ألا يتكرس في وعي المستوطنين اليهود. إذن، الخلاصة التي يمكن الوصول إليها أن الرباط في الأقصى ومواجهة الاقتحامات تزيد من حدة النقاش حول الاقتحامات داخل مجتمع المستوطنين بغض النظر عن منطلقاتهم المزعومة.
الجدل حول اقتحامات الأقصى لم يهدأ أبدًا داخل جمهور المستوطنين، منذ أيام الحاخام الأكبر شلومو غورين، الذي سمح باقتحام الأقصى، لكنه ينفجر أكثر بعد كل موجة مواجهات أو عمليات بسبب اقتحامات المستوطنين. وكما أشرنا يعتبر معظم الحاخامات بينهم الرئيسيون، أن اقتحام الأقصى محظور، وعندما يقع تصعيد فيه أو بسببه، فإنهم يحملون جماعات الهيكل المسؤولية ويعود النقاش بشكل أكثر حدة.
وبالعودة للتاريخ نجد أنه في عام 1976 أقرت المحكمة المركزية التابعة للاحتلال قرارا ينص على أحقية المستوطنين الصلاة داخل المسجد الأقصى، وكان هذا القرار هو الإجراء الأول على المستوى الرسمي "الإسرائيلي" لشرعنة الاقتحامات لكن سبقه اقتحامات واعتداءات كثر منذ احتلال القدس والمسجد الأقصى في حزيران 1967 حيث أدخل الجنرال موردخاي جور الجنود إلى المسجد الأقصى المبارك خلال حرب 1967 وقاموا برفع علم الاحتلال على قبة الصخرة وأحرقوا المصاحف داخل المسجد ومنعوا الصلاة فيه واستولوا على مفاتيح باب المغاربة وأصبح هذا الباب مخصصا لاقتحامات المستوطنين ومرور قوات شرطة الاحتلال الإسرائيلي من خلاله ليبدأ بعد ذلك مسلسل اقتحام المسجد الأقصى بشكل تدريجي حتى أصبح يقتحمه المئات من المستوطنين.
تستند فكرة اقتحام المسجد الأقصى على فكرة أيدلوجية للمستوطنين تؤمن ببناء الهيكل المزعوم داخل المسجد الأقصى، بالتالي اقتحام المسجد بالنسبة لهم قد تسمح بشرعنة وجودهم في باحات المسجد الأقصى والصلاة فيه وصولاً إلى البناء الثالث للهيكل المزعوم الذي يعتبر بالنسبة لهم جوهر الوجود الصهيوني في فلسطين المحتلة، إلى جانب مزاعم كتحرير المسجد من العرب والمسلمين وتطهيره لممارسة شعائرهم اليهودية والتلمودية.
وعادة ما تقوم بهذه الاقتحامات "جماعة أمناء الهيكل" وهي حركة دينية يهودية إسرائيلية يمينية متطرفة سعت مرات عديدة إلى إرساء حجر الأساس للهيكل المزعوم الذي يتم تصميمه وفق المواصفات التوراتية لكن جميع هذه المحاولات فشلت، وبدأت أولى محاولات "أمناء الهيكل" في اقتحام المسجد الأقصى في يناير- كانون الأول 1981 ورفعوا العلم "الإسرائيلي" والتوراة في وقتها، وقبل هذا الاقتحام كان ما يزال اقتحام المسجد الأقصى بشكل فردي ثم تحول إلى جماعات وبشكل منظم.
وكان قادة الاحتلال دائما ما يتذرعون بأن هذه الاقتحامات تعبر عن تصرفات فردية ولا داعي للاهتمام بها على الرغم من أنه في عام 1969 اقتحم إيفال ألون نائب رئيس حكومة الاحتلال ومساعده المسجد، وتم في عام 1997 إقرار أمر من قبل المستشار القضائي لحكومة الاحتلال يسمح للمستوطنين بالصلاة داخل المسجد الأقصى شرط التنسيق مع شرطة الاحتلال.
لكن في عام 2000 كان نقطة فاصلة في قضية اقتحامات المسجد الأقصى بعدما قررت المحكمة العليا التابعة للاحتلال بأن المستوى السياسي هو المسؤول الأول عن البت في قضايا المسجد الأقصى، وتبع هذا القرار بعد عدة أشهر اقتحام المسجد من قبل رئيس حكومة الاحتلال السابق اريئيل شارون الذي تسبب باندلاع انتفاضة الأقصى لتتوسع بعد ذلك الاقتحامات حتى وصلت إلى الآلاف، حيث سجل عام 2021 أعلى رقم للمستوطنين المقتحمين، وارتفعت عدد المجموعات المقتحمة إلى 45 مجموعة يومياً.
تدلل الآراء المختلفة داخل جمهور المستوطنين أن مواجهة الاقتحامات من قبل الفلسطينيين هي أحد الأسباب التي تزيد من حدة النقاش داخل جمهور المستوطنين حول الاقتحامات، بينما تمريرها بشكل هادئ يزيد من أنصار المؤيدين للاقتحامات، ولعل الأمر أصبح يتعلق بالسياسة أكثر من أي قطاع آخر، فعدم السماح باقتحام الأقصى يتسبب باتهامات لحكومة الاحتلال بالخضوع للمقدسيين والمقاومة.
لكن دور المقاومة الذي أصبح أكثر وضوحا في مجريات الأحداث بالقدس بعد معركة سيف، ألقى بظلاله على رأي جمهور المستوطنين من هذه الاقتحامات، فقد كشف معهد (أي بي كوهين) في استطلاع للرأي نشر قبل أيام أن غالبية المستوطنين ترى أنه "يجب إعطاء الاعتبارات السياسية أو الأمنية وزناً كبيراً في أي قرار يتعلق بتغيير الوضع الراهن في المسجد الأقصى". فيما يظهر الاستطلاع أن المستوطنين من جميع أنحاء الطيف السياسي والديني يدركون إلى حد كبير الأهمية الدينية والسياسية للمسجد الأقصى بالنسبة للمسلمين والفلسطينيين.
. . .