القدس حاضنة المناضلين ..
الكاتب والأديب محمود شقير
كان فائق ورّاد الذي تفتّحت عيناه على الحياة قبل اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى في العام 1936 بعشر سنوات، قد بدأ بحسه الفطري السليم يتلمس مظاهر الفقر والبؤس والتخلف في قريته، التي تشترك في ذلك مع بقية قرى الريف الفلسطيني. وبدأ في الوقت ذاته يتعرف على ما يحيط به من ظواهر عامة، مثّلت الثورة الفلسطينية آنذاك واحدة من أبرزها وأكثرها حسماً في حياته. فثمة عدم استقرار في البلاد، وثمة هجرة وانتداب ونزوع فلسطيني إلى الحرية والاستقلال.
وكان فائق ورّاد في تلك الفترة تلميذًا على مقاعد الدراسة. وقد هيأ له تفوقه وذكاؤه، الانتقال إلى القدس للدراسة في مدرستها الشهيرة: الرشيدية الثانوية، التي عملت فيها نخبة من أبرز المدرّسين الفلسطينيين، وكان في عدادهم أدباء ومثقفون.
أقام فائق ورّاد في القدس وهو تلميذ في مدرستها، أربع سنوات، نقلته من بساطة الريف إلى فضاء واسع متعدد الآفاق، حيث المعرفة والعلاقات المتشابكة المفضية إلى وعي حديث. كانت القدس ويافا وحيفا وغيرها من المدن الفلسطينية، تشهد انطلاقة أكيدة نحو الحداثة والعصرنة رغم ما يخططه لها الصهاينة والانكليز من مصير مشؤوم. وكان المنوّرون الفلسطينيون في حقول الثقافة والأدب والفن والصحافة والعلوم والتربية والتعليم، يواصلون جهودهم لوضع مجتمعهم في قلب العصر ومستجداته التي لا بد منها. وكانت عصبة التحرر الوطني في فلسطين هي التعبير الأكثر اكتمالاً آنذاك عن الحداثة الفلسطينية في حقل السياسة، وعن هموم الشعب الفلسطيني وتطلعاته.
فائق وراد الذي أمضى ثماني سنوات في سجن الجفر الصحراوي قبل هزيمة حزيران 1967 كان من أوائل المبعدين الفلسطينيين من الأرض المحتلة إلى الأردن جراء نشاطه السياسي ضد الاحتلال، وقد كتب عن تجربته النضالية في مذكراته التي صدرت في كتاب عام 2005، وفي الكتاب إشادة بالقدس التي كانت فيها مراكز للتنوير الفكري والسياسي والثقافي، تأثر بها وأخذته إلى طريق النضال الوطني التقدمي الطويل.
***
وكان المناضل المقدسي نعيم الأشهب من أوائل المعتقلين في السجون الإسرائيلية بعد هزيمة حزيران 1967 حيث اعتقل إداريًا عام 1968، وفي عام 2009 نشر سيرته الذاتية في كتاب موسوم بـ "دروب الألم.. دروب الأمل" تطرق فيه إلى قضايا كثيرة من بينها علاقته بمدينة القدس ونضاله مع رفاقه وجماهير شعبه من أجل تحررها من المحتلين الإسرائيليين، كان أهل المدينة في الأسابيع الأولى للاحتلال يتلمّسون طريقهم نحو الصمود والتصدي لعسف المحتلين. وها هو نعيم الأشهب يصف أول اعتقال له حين كان مقيمًا في بيت سري في المدينة، يقول:
"كان ذلك يوم 07/01/1968، إذ بينما كنت متوجهًا من بيتي السرّي، صاعدًا بمحاذاة حائط الكلية الرشيدية، في طريقي إلى شارع الزهراء، وإذا بشاب عملاق كالمصارعين أسمر البشرة مجعد الشعر، يبدو أنه من أصول مصرية، يعترضني ويبرز بطاقته إليّ، باعتباره من رجال الأمن الإسرائيلي، وعلى الفور انتزع من وسطه "كلبشات" يريد تكبيل يدي، فقلت له: "أنا لست لصًّا وأرفض تكبيل يدي"، فقال: "لا بأس، انتظر".ص200
بعد ذلك يسرد نعيم الأشهب كيف تخلّص من منشورات كان يحملها في جيب معطفه، وكيف حاول الفرار من الاعتقال، لكن رجل الأمن طارده وهو يشهر مسدسه حتى ألقى القبض عليه من جديد، ليتم توقيفه إداريّا ستة أشهر يطلق سراحه بعدها على أن يقوم "بإثبات الوجود مرتين يوميًّا في مركز الشرطة وعدم مغادرة البيت من غروب الشمس حتى شروقها"ص209
ثم يجري اعتقاله من جديد، يقول: "اقتربت ذكرى وعد بلفور المشوؤم، ووجدناها فرصة جديدة لتعبئة شعور المواطنين ضد الاحتلال. وهكذا، شرعنا نستعد لإضراب على نطاق البلاد،وبمشاركة جميع القوى المستعدة لهذه المعركة. وعصر الثلاثين من تشرين الأول/ أكتوبر1968، وعقب توزيع المنشور الداعي للإضراب، ذهبت لإثبات الوجود كالعادة في مركز القشلاق، لكنهم احتجزوني، ودون تحقيق هذه المرة، حولوني إلى مركز التحقيق في المسكوبية" ص212/213
جرّب نعيم الأشهب مرارة السجون الإسرائيلية في المسكوبية والرملة وشطّة والدامون جراء نضاله ضد الاحتلال، ثم أبعد من داخل السجن يوم السابع عشر من آب 1971، وبقي في المنفى اثنين وعشرين عامًا عاد بعدها إلى القدس مع الفوج الثاني من المبعدين العائدين بتاريخ الثالث من أيار 1993.
تبدو القدس هنا ملازمة لنضالات أبنائها، وهم لا يطيقون فراقها إلا مكرهين.
***
وقد اعتقل الكاتب أسعد الأسعد سبع مرات لمدد تتراوح بين أسابيع وعدة أشهر، كان أولها في 23 آب 1967 في سجن أبو كبير لثلاثة أشهر، ثم في1989 لستة أشهر وإقامة جبرية لتسع سنوات ومنع من السفر للمدة نفسها حتى 1991
في روايته "دروب المراثي" يقدّم على لسان مراد، بطل الرواية أطروحة مستندة إلى التاريخ وإلى وقائع من الزمن الحديث عن حقنا الثابت في وطننا فلسطين، وإلى ذلك فهو يلجأ إلى الترحّل في ربوع الوطن ومعه راحيل؛ الفتاة اليهودية التي تجهل كثيرًا من حاضر بلادنا وماضيها.
في الأحداث التاريخية المسرودة على لسان مراد تفاصيل ممتعة، كذلك هي الحال أثناء تعريف راحيل بتفاصيل المدن والقرى الفلسطينية التي زارتها برفقة مراد أو مرّت بها معه، ومن أهمها مدينة القدس، يقول: "اقترب مراد من راحيل، مقترحًا مرافقته لزيارة المسجد الأقصى وقبة الصخرة ومن بعد كنيسة القيامة (..) لم تستطع راحيل إخفاء مشاعرها حبن وقع نظرها على مراد ، وقد بدأت الشمس تختفي وتغادر مدينة القدس غربًا، فيما بدا الظلام يخيم على أزقة القدس."ص69/70
تبدو القدس هنا عصية على الغرباء الطارئين.
مجلة المقدسية/ العدد 14/2022
هذه المادة تأتي ضمن سلسلة "القدس في روايات الأسيرات والأسرى وفي السير الذاتية واليوميات" الجزء الـ3 للكاتب محمود شقير