المقدسية منوة ريان .. حكايةُ بيتٍ في لفتا وحلم العودةِ الصّعب

المقدسية منوة ريان .. حكايةُ بيتٍ في لفتا وحلم العودةِ الصّعب
منوة ريان

القدس المحتلة - القسطل: "عندما وصلت مع أمي وأخي لبيتنا في لفتا بُهرت، رغم بنائه في الأربعينيات، إلا أنه كان غاية في الجمال، كنت ابنة 14 عاماً في ذلك الوقت، والحقيقة أنني لم أعش في هذا البيت مع أمي وإخوتي، لكني تحسرت عليه كثيراً، وكانت أمي تقبض على يدي بشدة، تأملتها عند مشاهدتها ليهودية تخرج من البيت، كان وجهها غارقاً باليأس والظلام، وكان من الطبيعي أن تبدأ بالصراخ على اليهودية "هذا بيتي".

لم يُسمح لنا في البداية بدخول البيت، وبعد إلحاحٍ من والدتي تمكنا من ذلك، كان عصرياً وجميلاً وفيه شرفتان خارجيتان، أخبرت أخي الذي يصغرني بسنة واحدة، لو أننا نعيش في هذا البيت لصعدت على شرفة وأنت على الأخرى، وبدأنا باللعب والصراخ على بعضنا البعض".

هي واحدة من آلاف القصص التي ما زالت الجدات ترويها لأحفادها جيلاً بعد جيل، وما زلنا صُحفيين نركض وراء آخر المُعمرين الفلسطينيين، ممن حافظوا على ذاكرتهم وذكرياتهم، ننقلُ قصصاً أوجعت قلوبهم وأثكلتها حد اليأس، فالمشاهد التي تكررت عند رؤية كل فلسطيني لبيته الذي تم الاستيلاء عليه حملت نفس الهم والوجع والوصف، وهذه الحاجة منوة ريان (66 عاماً)، لا تكفُّ عن وصف بيت والدها في قرية لفتا المهجرة، وتروي قصص زيارتها مع والدتها للمنزل، وتنقل الأماني وأحلام العودة، كما هي خيباتُ الهجرة الأولى والفقدان.

عاشت عائلة السيدة منوة في قرية لفتا، حيث قضى مرض الكوليرا على عائلة أمها وظلت وحيدة، وكان والدها مسافراً لأمريكا يعمل بجد لتأسيس حياة كريمة لعائلته، عندما عاد لفلسطين، بنى بيتاً كبيراً في لفتا بالنقود التي جمعها من عمله في أمريكا، كان البيت قريباً من شارع يافا، وعاشت العائلة سنتان فيه.

وفي عام 1947 بدأت المناوشات بين الثوار الفلسطينيين والإسرائيليين بالتغول، خاف والدها على عائلته وأطفاله، فنقلهم جميعاً للعيش في مدينة رام الله ريثما تهدأ الحال في لفتا، وهكذا لم يبقَ في البيت الكبير إلا والدها الذي ظل يتفقد عائلته اللاجئة إلى رام الله من جهة، ويعود ليحمي بيته من جهة أخرى.

تقول منوة لـ”القسطل”: "ظل والدي على هذه الحال حتى عام 1948، تهجّر كل أهل لفتا منها واستولوا على بيوتهم، كان أبي يقول نعود حين تهدأ الحرب، مرت 74 سنة ولم تهدأ الحرب ولم نعُدْ.. خسر والدي البيت بما فيه، لم يستطع حتى نقل أثاثه، أذكر أمي حين كانت تغضب من والدي وتبكي فتقول له: "طلعت من البلد وحتى صورة عرسنا ما جبتها معك".

لكن والدها احتفظ بكل الأوراق التي تثبت ملكية البيت والأراضي، أوراق الطابو والضرائب، وما زالت كل الأوراق مع شقيقها الأكبر الذي يحتفظ بها.

بعد 20 عاماً من الهجرة، زارت منوة البيت مع والدتها، قالت: "بعد 20 عاماً كان كل شيء مختلفاً، أثناء الطريق استغربت أمي من الشوارع والأبينة، لكننا استطعنا الوصول إلى لفتا، وفور وصولنا بدأت أمي تعرّفني على الأماكن، هنا كان بيت عمتك، هنا كان موقعاً لمصنع، وهذا بيتنا بالجهة الشمالية من القرية، والحقيقة أنه كان مُبهر الجمال رغم بنائه في الأربعينيات".

أضافت: "عشقت أمي البيت، فهي الشاهدة على كل حجرٍ بُني فيه، ولطالما حدثتني عن أجواء البناء، ومع كل طابق ينتهي بناؤه بسلام كنا نعبر عن الفرح بالغناء وعمل الولائم للناس التي أعانتنا على البناء، وكان في بيتنا شرفة مفضلة لدى أمي تجلس في ليالي السهر عليها، وكل من يمر من جانب البيت يبهر بجماله، وجمال النثريات الموجودة بداخله".

الاحتلالُ لم يكتفِ بالاستيلاء على المنزل في لفتا، ففي عام 1967 سقطت الضفة الغربية أيضاً في قبضته، وحتى اللاجئين الذين هربوا من مجازر نكبة عام 1948، لم يهنأوا بعيشٍ آمن في أماكن لجوئهم، وكانت للشائعات دورٌ كبير في خلق حالة من الذعر لدى السكان. تقول السيدة منوة: "كنتُ صغيرة عندما سقطت الضفة بيد إسرائيل، وكان الاحتلال في وقتها مثل الوحش لدينا نحن الأطفال، نخاف من مجرد سماع اسمه، كثرت الأحاديث وقيل إن الجنود الإسرائيليين يدخلون كل بلد ويذبحون الفتيات والفتية، من شدة الذعر هرب بعض الناس، وأمر أبي إخوتي بالهرب معهم، أمّا أنا وأختي وأمي وأبي هربنا للاختباء في مغارة، بقينا فيها حتى ساعة متأخرة من الليل، ثم عدنا لمنزلنا في رام الله بالخفاء، وقمنا بتركيب ستائر على كافة النوافذ وأطفأنا كل الأنوار، لئلّا يكتشف الجنود وجودنا في المنزل، بعد 20 يوماً عاد أشقائي في حالة يرثى لها حيث هربوا مع الناس إلى الأردن وعادوا، ثم مضت الأشهر وهدأت الأوضاع قليلاً، وبات وجود الاحتلال بيننا اعتيادياً".

تحافظ السيدة منوة اليوم على مقتنيات من منزلها في لفتا، مثل الكراسي وآلة خياطة، وكؤوس من زفاف والدها ووالدتها. أخبرتني منوة: "كانت والدتي ماهرة في التطريز، وقبل أن تتزوج صنعت كل ملبوساتها بيديها، الأثواب والأغطية، وما زلت أحتفظ بكل مقتنياتها لأنها من رائحة لفتا".

تواجه قرية لفتا اليوم مشاريع استيطانية تقضي بهدم المنازل الأثرية فيها، وتحويل المنطقة لمشاريع سياحية وفنادق فاخرة، ومنذ عام 2004 يخوض أهل لفتا وجمعيات حقوق الإنسان معارك قضائية لمنع هدمها. 

ولا يُسمح لأحد من أهل لفتا بالسكن فيها، لكن المنازل الحجرية بأبوابها ونوافذها ذات الأقواس لا تزال قائمة مع أطلال مسجد القرية وبعض البيوت.

ويتمسك الفلسطيني بأصوله مهما تغير مكان سكنه، ومع أن حلم العودة صعبٌ بالنسبة له إلا أنه يحرص دائماً على نقل قصته من جيل إلى جيل، تقول منوة لـ"القسطل": "كل من يسألني عن بلدي أخبره أنني من لفتا، وأعلم أن الأمر صعب لكن كم أتمنى أن أعيش في منزل والداي، أعلم أن العيش فيه سيكون أفضل بكثيرٍ من أي قصر في العالم، لكن ما باستطاعتي فعله هو نقل الصورة الصحيحة لأبنائي وأحفادي".

وتابعت: "الجميل أن الأطفال لا ينسون شيئاً، لدي حفيدة تسكن في البحرين، عندما زارتني في فلسطين أخبرتني أنها تريد زيارة لفتا، فأخذتها هناك وبُهرت بكمية الجمال، وحرصت أن أريها أرض جدها ومنزله، ولأن المنطقة جميلة جداً فقد نالت إعجاب حفيدتي بشكل لا يصدق، واليوم كل من يسألها عن أصولها تخبره أنها من لفتا وتذكرهم لهم القصة كاملة، كما تعلمت الأغاني التراثية اللفتاوية والدبكة أيضا".

تقول منوة: "هم يعتقدون أن الجيل الكبير الشاهد على أحداث النكبة إن مات فقد ماتت القصة والرواية بالكامل، لكنهم لا يعرفون أننا متمسكون بالرواية وننقلها من الأولاد للأحفاد، نحن لا ننسى بيتاً كنا جزءًا من تفاصيله، ومفاتيحه لا تزال معنا، ولا ننسى من أخرج أهلنا بالقوة غصباً عنهم وكنا نحن الشاهدين على القهر في عيونهم".

. . .
رابط مختصر