الدبكة الشعبية في وعي المقدسية تالا عابدين.. لكل إيقاع حركة ولكل حركة معنىَ فلسطيني
القدس المحتلة- القسطل: "لا أنسى أول لحظة صعدت فيها إلى المسرح بعد جهد وتعب طويل، كان أول عرض دبكة فلسطينية لي، السعادة التي رأيتها على وجوه الناس وأنا أقدم شيئاً أحبه أنستني تعب أيامٍ طوال من التدريب، الدبكة رقص شعبي له روح، وعليك أن تحبها كي تصل روحها إلى جمهورك".
كما هي مشاعر الوهلة الأولى من كل شيء جديد، الترقب والتوتر واللهفة، كلها عواملُ تؤسس للحظات حميمية لا تنسى عاملها المشترك الشغف والحب، كذلك هي الدبكة الفلسطينية، مجموعة من الحركات والإيقاعات التي تأصلت في الثقافة الفلسطينية عبر العصور وتناقلها الأجداد، فشكلت هوية الفلسطيني وميزته عن غيره، وجعلتها وسيلةً من وسائل المقاومة السلمية، فكلّ حركة تحكي قصة المزارعين الفلسطينيين الأوائل، وكل إيقاعٍ يوصل رسالة واضحة بأحقية الأرض وأصلها.
تالا عابدين فتاة مقدسية تبلغ 23 عاماً، تسكن مدينة القدس، بدأ شغفها بالدبكة الفلسطينية حين رأت عروضاً على المسرح تعكس اللباس التراثي والهوية الفلسطينية، فعقدت العزم على التعلم، وبدأت بعمر الـ10 سنوات بعد دعم كبير من والدتها، وطورت نفسها حتى انضمت لفرقة دوبان المقدسية التي تدرب أنوعاً مختلفة من الرقص الشعبي مع تركيزٍ أساسي على الدبكة الفلسطينية.
تقول عابدين لـ "القسطل" إن الدبكة جزء من شخصية الفرد الفلسطيني، ذلك أن الحركات الأساسية فيها مستمدة من حياة المزارع الفلسطيني، وحركته أثناء زراعة الأرض وحراثتها، حيث جاءت الدبكة عبر الزمن في مواسم الزراعة الفلسطينية، حيث يجتمع المزارعون ويغنون الأغاني التراثية ومع حركات ضرب الفأس في الأرض والحراثة، ظهرت الدبكة الفلسطينية، وتطورت من جيل إلى جيل.
وللدبكة الفلسطينية حركات أساسية تقوم عليها، مثل انزل، تكسي، غزال، كما أن لها إيقاعاً خاصاً، توضح تالا:" تعلقت بالدبكة حين علمت منذ صغيري أنها جزء من ثقافتي، لقد ساهمت في تشكيل هويتي وشخصيتي بشكل كبير، وأعطتني ثقة هائلة بنفسي، رغم صعوبة الأمر في البداية بسبب وجوب تنسيق الإيقاع مع حركات الرقص، ذلك أن إيقاع 4 وإيقاع 6 مثلاً، يتطلبان من مؤدي الدبكة أن يملك قدرة جسدية وأذناً موسيقياً للتنسيق بين الإيقاع والحركات، وهي من أصعب ما واجهني خلال بداياتي في تعلم الدبكة، لكني تطورت بشكل سريع وأنا أعمل اليوم كمدربة للدبكة الفلسطينية".
وأضافت:" حرصت عائلتي على توعيتي بالتراث وأهميته منذ الصغر، لذا أؤمن أن على كل طفل فلسطيني تعلم الدبكة التي هي جزء من تراثه، أو على الأقل أن تتوفر المعرفة الأساسية بهذا التراث الشعبي، فهي ثقافة شعبنا، كما لكل شعب ثقافة تخصه، كذلك فإن الأطفال بيئة خصبة للتعلم بسرعة ونقل المعرفة عند الكبر، مثلاً عندما يتعلم الطفل "حركة إنزل" التي جاءت من الفلاح الفلسطيني أثناء دوس أقدامه في الطين وتزامن الحركة مع الأغاني التراثية التي كان يغنيها الفلاح لتسلية نفسه خلال يوم شاق من العمل في الأرض، هكذا يتعلم الطفل أصل الحركة وكيف جاءت، وتتعزز ثقافته وهويته بأرضه".
لا يقتصر الأمر على تعلم الدبكة كشغف ورقصة تراثية فحسب، تفتح الدبكة مجالات مختلفة للذي يتعلمها، تقول تالا:" في عمر الـ 18 أصبحت مدربة دبكة ولي دخلي الثبات، الجميل في الأمر أنك في مرحلة ما تكون طفلاً متعلماً وحين تتقن الحركات تصبح مدرباً ينقل ذات المعرفة للجيل الصغير، وهي بطبيعة الحال مسؤولية مجتمعية علينا جميعاً".
تصبح الدبكة جزءً من شخصية مؤديها، فكما تشكل نوعاً من ممارسة الثقافة والتأكيد عليها، تشكل أيضاً شكلاً من أشكال التفريغ النفسي، وأهم ما يميز الدبكة، أن حركاتها تصقل جسماً رياضياً ولائقاً بدنياً، كما أن حركاتها عبارة عن مجموعة رسائل صامتة هدفها أن تصل للجمهور وتنقل له القصص كاملة من خلال العرض، وعلى الراقص للدبكة أن يعي معنى كل حركة كي يصل معناها لجمهوره فهو ينقل ثقافة أجيال عند تأديتها، واللافت أن الدبكة تطورت حركاتها بتقدم الزمن، بما يتلاءم مع كل جيل ومع متطلبات العصر، لكن طابعها الأساسي ما زال محافظاً على شكله.
تقول عابدين:" أكثر ما يجعلني أحب الدبكة، أن العرض على المسرح بإمكانه أن يوصل قصصاً كاملة، ومثلاً صممنا رقصة دبكة في فرقتنا تتحدث عن القدس والجاليات العربية التي تعيش فيها، بعنوان "صلال" أي صلاة وصليب وهلال، هدف العرض عكس طبيعة الحب والتعاون الموجود بين هؤلاء الجاليات على اختلاف بلدانهم وأعراقهم وأديانهم، وما جعل الأمر ممتعاً أكثر هو ردود أفعال الناس بعد كل عرض، كثيراً ما يخبرنا الناس أن الرسائل التي وصلتهم من خلال الدبكة عن وجود نوبيين ومصريين وأفارقة في القدس لم تكن معروفة لديهم، لذلك فإن الدبكة والحركات المرتبطة بها تجسد قصص الواقع الفلسطيني للعالم بطريقة سلمية".
تقول عابدين:" قدمت قبل نحو شهر عرضاً مع فرقتي في مدينة الناصرة، لأناس أوربيون، بعد الانتهاء من العرض كان انطباع الحاضرون مذهلاً، حيث شرحنا لهم أصل الحركات ومن أين أخترع الفلسطيني كل حركة في الدبكة، وحاولنا أن نعلمهم بعض الحركات وقمنا بالدبكة سوياً، بعضهم كان يرغب جداً في تعلمها وأخبرونا أن الأمر ليس سهلاً فهي رقصة تراثية صعبة، كذلك قدمت عرضاً في دولة الكويت بعنوان حلم الصحراء الذي صممنا حركات الدبكة فيه لتوحي بأمل الفلسطيني في توحيد الشعب العربي، وقد حقق العرض الكثير من ردود الأفعال الإيجابية، وهذا يؤكد أن رسالتنا وصلت".
تؤمن تالا أن لكل فرد طريقة تعبيره الخاصة، ولطالما كانت الدبكة رمزاً للفرح، لكن الاحتلال لم يكتفِ بمعاداة الفلسطيني بأرضه، فقد حاول سرقة ثقافته وتراثه أيضاً، عبر نسبة رقص الدبكة للتراث الإسرائيلي، لذا ترى تالا أن ترسيخ التراث الفلسطيني عبر الأجيال وجعل الأطفال مُلمين به هو أمر مهم في الحفاظ عليه من التهويد والأسرلة.