شوكة النار في شعفاط !

شوكة النار في شعفاط !
من مخيم شعفاط

القدس المحتلة - القسطل: زعموا أن شعفاط منسوبة إلى ملك يهودي اسمه يهوشافاط وهو حفيد الملك سليمان في التراث اليهودي، فهو ابن أفِيّا بن رحبعام بن سليمان بن داود؛ ويقولون إنه كان ملكاً صالحاً يعتني بعلماء بني إسرائيل، وملك نحو ربع قرن؛ ولم تكن مملكته سوى مشيخة قبليّة إن افترضنا صحة وجود هذه المملكة أصلاً، ولا يوجد أي علاقة معروفة بين هذا الملك وهذا الموضع الذي قرَنوه به بدافع التقارب في مخارج صوت الكلمات.
 

ولو تأمّلوا قليلاً لوجدوا أن الكلمة في زمان الصليبيين كان يتقدمها لفظ "دير" وباللاتينية Dersophath، وبما أنه اسم مكان فلابد أن هذه الكلمة منقولة من العربية، ثم أسقطوا كلمة الدير مع كثرة الاستعمال خاصة أن خِرَب شعفاط فيها العديد من الكنائس القديمة والأديرة الصغيرة؛ ونجدها في الخرائط والسجلات العثمانية باسم شافات وشعفات؛ وربما يجوز لنا القول إن أصل الكلمة عربيّ أصيل من مادة "شعف" والشَّعفة رأس الجبل، وتجمع الشعفة على شَعَفات، وغالباً ما يكون للجبل عدة شعفات؛ ويرجّح هذا أن شعفاط تقع على هضبة عالية بنحو 780 م فوق سطح البحر في شمالي القدس بالقرب من رأس المشارف المُطلّ على المدينة المقدسة على مسافة تقرب من خمسة كيلومترات عنها.
 

وهي مدينة قديمة ضاربة الجذور في الاستيطان البشريّ، وما تزال آثارها وأحفوراتها ومغرها وبقايا طواحينها الهوائية تدلّ على شأن ساكنيها القدماء الذين لم يسجّلوا في بقاياهم المكتشفة أيّ شيء ينتمي لمملكة يهودية؛ ولو تجوّلتَ في خربة الصومعة بأبنيتها المستطيلة وصهاريجها وغرفها المعقودة وحظيرتها الجرية، وخربة الراس في ظاهر شعفاط الغربي، وخربة المصانع إلى الجنوب الغربيّ وكنيستها القديمة المنقورة في الصخر وبِركتها ومدافنها، وآثار تل الفول الكنعانية إلى الشمال بقلعتها ومدينتها المتهدّمة، وخربة العدسة بجدرانها المتصدعة وصهاريجها الصخرية ... فسترى كل شيء في شعفاط ينفي عنها أيّ لون يهوديّ ولو كان عابراً.
 

ويبدو أن شعفاط كانت ملاذاً للعبّاد والزهّاد والرهبان، وفيها مقام لسلطان الزاهدين إبراهيم بن أدهم المتوفى عام 162هـ يسمى المسجد الأدهمي العتيق هدمه الاحتلال عام 1967 ولكن الشعفاطيين أعادوا بناءه ثانية، وحوله حوش مسمى باسمه يقال له حوش إبراهيم.
 

وتزخر ذاكرة شعفاط الخضراء بمجد قديم في مقاتلة الصليبيين وحصارهم وشنّ الغارات عليهم رغم شدة البأس الذي وقع عليهم، وجدّد أهلها الغارة على الاحتلال البريطانيّ واستخدموا ما تبقى من سلاح المدفعية العثمانيّ في مهاجمة الجيش الإنجليزي وميليشيات الهاجاناه كما استولوا على مخازن سلاح هذه الميليشيا وآلياتها الثقيلة، وتعرّضت البلدة لقصف عنيف متكرر في عشرينيات القرن العشرين وبداية الثلاثينيات.
 

يذكر إسحاق رابين رئيس وزراء الاحتلال الهالك في مذكراته أن خطتهم للاستيلاء على القدس عام 1948 كان مفتاحها السيطرة على شمال القدس، ولا ينسى رابين ولا بن غوريون وعصابات الهاجانا ما جرى لكتيبة "موريا" التابعة للواء "عتصيوني" يوم أن فتح عليها المناضلون نيران كمينهم في 24 مارس 1948 عند مدخل شعفاط أثناء توجههم إلى مستوطنتي النبي يعقوب وعطروت من جبل المشارف، إذ فجروا فيهم ناقلة جند بلغم أرضي، وتبعها إطلاق نار كثيف ومولوتوف على شاحنة مصفحة، وكان أكبر قتلاهم المجرم أبراهام غولدبرغر الذي ارتكب مجازر بحق الثوار في ثورة 1936م، ولمّا حاول العدوّ إرسال الإمدادات تقاطرت القرى العربية من المزرعة الشرقية وترمسعيا وعناتا وحزما ومزارع النوباني وشعفاط أيضاً بثوارها، وكانت معركة مشهودة جندلت 14 هاجانيّاً وأصابت منهم 11 وتركت فيهم عضّة غائرة تسببت في تأخير احتلال قرى شمال القدس نحو 19 عاماً؛ ولولا تدخّل الجنرال ماكميلان قائد القوات البريطانية في فلسطين، والفريق غلوب باشا البريطاني رئيس أركان حرب الجيش الأردني الخاضع للانتداب البريطاني آنذاك لكان للأمر ما بعده، فقد كان للجيش الأردني دور في نجاح هذه العملية، وكان نايف الحديد من عشائر البلقاء هو قائد السرية المساندة في كتيبة المشاة الثانية المشاركة في معركة القدس (شعفاط) عام 1948.
 

ولحساسية الموقع الاستراتيجي لهذه البلدة في حماية القدس اتخذها الجيش الأردنيّ معسكراً قرب خربة الرأس، وتجد هناك هيكلاً إسمنتياً لم يكتمل لقصر تابع للملك حسين ملك الأردن، إلا أن الموقع سقط بيد الاحتلال عام 1967 بعد معركة جوية وبرّيّة شرسة مع السرية الأردنية المتمركزة في التلة وقوتها المدرّعة وسرية المشاة فيها.
 

وفي حربي 48 و67 تعرّضت الكثير من بيوت شعفاط للهدم والتخريب، وكثيراً ما نزح أهلها خاصة من النساء والأطفال، لكن فرسان شعفاط كانوا يرابطون فيها ويشرفون على عودة النازحين وتأمينهم إليها؛ ويتحدث الصهاينة بامتعاض كيف رفضت شعفاط الاستسلام بعد القصف العنيف الذي تعرضت له بمدافع الهاون من عيار 3 إنشات عام 48 فأسقطت مشروع احتلال القدس كلها.
 

ومع أن شعفاط كان لها اتصال بأراضي القرى الفلسطينية المقدسية حولها مثل بيت حنينا وعناتا وحزما ولفتا والعيسوية وبيت اكسا إلا أن المستوطنات المقامة على الأراضي المصادَرة من الفلسطينيين قد قطعت تواصلها مع محيطها، وعزلتها بين مستوطنات دموية شريرة مثل رامات شلومو للمتدينين الكنديين، والتلة الفرنسية وبسغات زئيف ورامات أشكول... وهي التي تخرج منها أدوات القتل والحرق والكائنات المضفّرة المسعورة ذات القبعات السوداء؛ وهم الذين خطفوا الفتى الفلسطيني محمد أبو خضير وأحرقوه حياً في 2014 في شعفاط.
 

وفي شعفاط مخيّم صعب العريكة شرس المواجهة متراصّ المنازل ضيق الشوارع نشأ عام 1965-1966 بمبادرة من وكالة الأونروا لإيواء اللاجئين من مخيم للّاجئين في حارة الشرفا قرب حائط البراق في القدس وكانوا آنذاك ربع سكان البلدة القديمة، وتحوّل اسم حارة الشرفا إلى حارة اليهود بعدهم، وستجد أيضاً في المخيم اللاجئين المهجّرين قسراً من القدس والرملة ويافا، وقرى عمواس وبيت نوبا ويالو، وهو المخيم الوحيد التابع الآن لبلدية القدس الخاضعة للاحتلال؛ وهو المخيّم الذي تشكّل إزالته أولوية لأي رئيس بلدية "إسرائيليّ"، ويمكنك أن تعرف سبب ذلك بالتجوال على الشعارات المكتوبة على جدران المخيم، وأكوام الحجارة المتراصة في مواقعها استعداداً لقذف جنود الاحتلال بها.
 

سياسات بلدية القدس التي تديرها سلطات الاحتلال والتي تتبع شعفاط لها خنقت هذا الحي المقدسيّ ومخيّمه المكتظّ المتكدّس بالفلسطينيين في ظروف قاسية وجدار عازل وحواجز مجنونة وضرائب باهظة وبنية تحتية شبه معدومة وحرمان شامل من الخدمات، ومنع للتمدد الطبيعي لأي كتلة بشرية سكانية، وتعقيد لجميع أشكال رخص البناء والسكن، والتهديد المتواصل بالهدم، وارتفاع قيمة الأراضي والشقق إلى معدلات مستحيلة... ويكفي أن تعلم أن كل طفل فلسطيني في شعفاط ذاق مرار المحتل، وشاهد مناظر دمويته واقتحاماته واعتقالاته، وسمع صراخه وشتائمه وتهديده.
 

في شعفاط ومخيمها نفَسٌ قتاليّ قديم توارثوه عن أجدادهم، وهم أهل شغف بالنضال، وخبرة في الصدام، وتميز في طول النفَس، ومهارة ساخرة في استدراج العدو ومغافلته، ولو استمعتم إلى قصصهم في استنزاف مشروع القطار الاستيطاني الخفيف وتدمير مواقفه ومحطاته ومنع مروره لأشهر، وحكاياتهم الطولية مع جنود حاجز شعفاط الشهير، والمعلّقات التي سطّرها الأسرى منهم لكتبتم مجلدات في مرويّاتهم، ولصنعتم مشاهد عظيمة لسينما عالمية تصرف نظرها عنهم عمداً.
 

شعفاط اليوم - كما كانت من قبل- شوكة فولاذية حادة ملتوية مدببة الأسنان تعرف كيف تغرز أشواكها الناريّة في عيون المحتلين وأعوانهم، وكلما أطلّ مستوطن من نافذة مستوطنته فإنه سيرى شعفاط ومخيمها ناراً تتوقّد في عينيه الخائفتين.


 

. . .
رابط مختصر
مشاركة الخبر: