جريمة القتل الثلاثية في كفر عقب

جريمة القتل الثلاثية في كفر عقب

سأتحدث قليلاً عن الظروف المحيطة بهذه الجريمة وغيرها والتي غدت تزداد في الفترة الأخيرة.. ثم أفكر معكم.. لماذا تزداد هذه الجرائم؟

ربما لا يعرف الكثيرون، خاصة من خارج فلسطين، أن جزءاً كبيراً من المقدسيين، ربما النصف أو أقل من ذلك أو أكثر.. يعيشون في أحياء لها ظروف قل مثيلها في العالم..

هي الأحياء المحيطة بالقدس من شمالها وشرقها، والتي غدت بعد بناء جدار الفصل الصهيوني.. مناطق لا يحكمها ولا ينظمها سلطان. الحكومة الصهيونية لا تديرها ولا تنظم شؤونها ولا تهتم بها أبداً، وفي نفس الوقت تمنع السلطة الفلسطينية من امتلاك السلطان الأمني فيها بحيث تستطيع فرض النظام فيها أو إدارتها.

النتيجة هي أن أحياء مثل كفر عقب، مخيم قلنديا، الرام، عناتا ومخيم شعفاط، الزعيم، والعيزرية، والتي تمتلئ بالمقدسيين الذين يعيشون فيها بسبب صعوبة الحصول على بيت في أحياء القدس العربية التي في داخل الجدار.. أصبحت هذه الأحياء مناطق محزنة بائسة مدمرة.. بناء عشوائي فوضوي ليس عليه رقيب.. شوارع ضيقة غير مناسبة للكثافة السكانية، شح شديد في الأماكن التي تصلح كمواقف ومصفات للسيارات، انعدام للنظافة، بؤس في البنى التحتية والمواصلات.. ثم وبالطبع وبسبب عدم وجود سلطة أمنية فلسطينية أو صهيونية.. فلتان أمني وانتشار للمجرمين الذين يجدون في هذه المناطق ملاذاً آمناً.

حتى لا أبالغ .. هذه المناطق ليست جهنم كما قد يبدو من وصفي السابق.. لكنها بالفعل مناطق تصعب الحياة فيها.  وحتى لا أعمم.. هذه المناطق يوجد بينها اختلافات معينة من حيث بؤس هذا الحال أو ذلك.

بالأمس قُتل ثلاثة من عائلة واحدة، شقيقان وابن اختهم.. على يد أبناء عمومتهم في كفر عقب بسبب شجار!

الناس كالعادة تتحدث عن التربية والأخلاق والدين..

حسناً سأقول لكم شيئاً لم أفهمه إلا بعد عمر طويل ومسيرة مجهدة..

يا أحباب.. للأخلاق والتربية حدٌ معين .. ثم تحكم الظروف المادية..

كثير من أبناء العائلات الراقية العريقة في مدن فلسطين التي هجرها الصهاينة عام 1948.. كانوا قبل النكبة.. في مدنهم وبيوتهم وأعمالهم .. كانوا أهل عز ورقي وذوق وتعليم وأدب..

ثم بعد أن تغيرت الظروف.. وبعد أن هُجروا وعاشوا حياة اللجوء والفقر، التنافس على كسرة الطعام، التنافس في مخيمات اللجوء على الوصول إلى شعاع الشمس.. التكدس والفقر وانعدام الأفق وانعدام الراحة النفسية.. كثير من أبناء هذه العائلات.. خاصة بعد جيل أو جيلين.. تجدهم قد اكتسبوا حدةً وفقداناً للإحساس بالرقي... كنت أحدث بعضهم وأسأله.. هل تعرف أن عائلتك كانت في الماضي كذا وكذا .. عائلة مشهورة بالرقي والمكانة.. فأجده لا يكاد يصدق بسبب ابتعاد حال اليوم عن الأمس.

وفي المقابل .. أعرف عن عائلات مشهورة أنها راقية وذات مكانة وعلم ومال وذوق.. تبحث عن أصلها فتجد أن جدهم الأكبر كان قاطع طرق مجرم دنيء، اتقى بعض الحكام شره بإعطائه منصب ومال.. ثم عندما توالت الأجيال التي تعيش في النعيم والمال والراحة.. اكتسبوا مع الوقت علمًا وذوقاً وكرماً ورقياً.. ومكانة.

(ملاحظة: كثير من رقي الأخلاق في الغرب.. مرجعه إلى السعة التي يعيشونها منذ عقود.. لكن هذا حديثٌ آخر)

الفكرة أن الظروف لها سلطان .. حتى على الأخلاق..

كما قال سيدنا عثمان في كلمته العجيبة البليغة "إن الله ليزع بالسلطان.. ما لا يزع بالقرآن"..

وجود الظروف الخارجية، كالسلطان مثلاً.. في كثير من الأحيان له أثر أكبر من الأخلاق والتربية.. وحتى الدين.

وهذه من الحكم التي جعلت دين الإسلام يهتم لتلك الدرجة بالجهاد والحكم والسياسة.. ببساطة لأن المواعظ والأخلاق لا تكفي..

ما علاقة كل هذا بجريمة اليوم..

قناعتي التامة.. هي أن أهل القدس كما أعرفهم (وقد عاشرت كثيرًا من الناس من مجتمعات مختلفة داخل فلسطين وخارجها).. أهل القدس هم من خير الناس أخلاقاً وديناً وشهامةً ورجولة.. لكن يا أحباب.. إن لم نغير هذه الظروف التي يعيش بها كثيرون منا.. بداية في مناطق غلاف القدس التي تحدثت عنها، ثم بعض أحياء القدس التي داخل الجدار والتي يزاد الوضع سوءًا فيها بسبب التحكم والإهمال والإفساد من قبل الحكومة الصهيونية التي تديرها وتحكمها..

إن لم تتغير هذه الظروف.. فنحن في خطر التحول لمجتمع يدمر نفسه بنفسه بالجرائم والفوضى والجهل..

الدعاة والمصلحون الذين يهتمون بالدين والأخلاق يجب أن يستمروا بالعمل.. لكن بصراحة هذا لن يكون كافياً.. يجب تغيير الظروف المادية التي نعيش فيها.

كيف نغير هذه الظروف.. لا أعرف بعد.. الأمر بالطبع مرتبط بالسياسة والصراع.. لكني أخاف من طول الأمد بحيث تفقد الأمة أهل القدس كخط أول في الدفاع عن بيتها المقدس.

على الأقل ربما يجب التفكير في حلول لتنظيم الحياة وفرض السلطان الأمني والإدارة في أحياء محيط القدس.. يجب أن يكون التفكير في ذلك من الأولويات عند أهل الحل والعقد.

أما على المستوى الأبسط.. من يعرفني يعرف أنني أنصح أحبابي وأهلي.. أن لا يستثمروا في بناء أو شراء بيت في هذه المناطق.. ازدياد الكثافة السكانية فيها مع انعدام السلطان فيها وانتشار الفوضى.. لا يبشر بخير للمستقبل.

. . .
رابط مختصر
مشاركة الخبر: