الانتفاضة الأولى والمقاومة الشعبية.. طفل حجارة مقدسي يروي تفاصيلها

الانتفاضة الأولى والمقاومة الشعبية.. طفل حجارة مقدسي يروي تفاصيلها
القدس المحتلة - القسطل: بين أشجار الزيتون العتيقة، وعلى تلة عالية تشرف على القدس المحتلة، ولا تبعد عنها أكثر من 10 كيلومترات تقع رافات، الملتصقة برام الله أيضاً، والتي يخنقها الاحتلال من جهاتها الجنوبية والشرقية والغربية، ساعياً لعزلها عن أمها القدس، بجداره العنصري، ومعسكره جيش احتلاله، وسجنه البغيض، المُسمى باسم الجندي الصهيوني الذي كان ضمن القوات الصهيونية المحتلة للقدس (عوفر) بحسبِ روايةٍ من (ختيار) رافاتي. يتشارك معسكر عوفر مع مستوطنات تجمع (جفعات زئيف)، ومستوطنة (عطاروت) في عزل رافات عن القدس، ولعل هذا الظرف والوضع الجيواستراتيجي وطبيعة استهداف الاحتلال لـ (رافات)، هي من خلقت ذاكرة نضالية خصبة لضيف حكايتنا، يروي جانبًا منها، مستحضرًا ذاكرة طفل صغير عاين انفجار انتفاضة الحجارة الأولى في فلسطين، في العام 1987.   مع الانتفاضة طفلاً ومراهقاً ولد ساري عرابي في رافات في العام 1980، وعند اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى كان ساري في السابعة من عمره، إذ بدأ وعيّه يتفتح مع تفتحها، ولأن الانتفاضة ، بحسب ما يري العديد ممن يؤرخ لها، بما في ذلك ضيف الحكاية، استمرت لغاية العام 1995، فقد شكلت لساري الحدث الأبرز في مراهقته وشبابه المبكر، مما قد يجعلها صالحة للإشارة إلى تجربة جيل من الشباب الفلسطيني نشأ في الانتفاضة الأولى، وانخرط في الانتفاضة الثانية، وخاض تجربة الاعتقال أو الإصابة، وشهد التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بين الانتفاضتين الأولى والثانية.   الانتفاضة مستمرة لم تكن الانتفاضة الأولى حدثاً طارئاً على تاريخ المقاومة الشعبية للاحتلال الصهيوني لفلسطين، ولا على تاريخ الضفة الغربية وقطاع غزة، على وجه الخصوص، فقدّ شهدت الأرض المحتلة ومنذ العام 1967 ولغاية العام 1987 العديد من الهبات الشعبية وفصول المواجهة، ومن ضمنها مثلاً الهبة أو الانتفاضة الشعبية التي وقعت في كافة المدن والقرى الفلسطينية، في 11 نيسان من العام 1982، عقب ارتكاب الجندي الصهيوني (هاري غولدمان) لمجزرة الأقصى الأولى، حيث استمرت الهبة لمدة 8 أيّام، واستشهد خلالها العشرات من الفلسطينيين.   لذلك يتذكر ساري عرابي، بداية انتباهه للأحداث الأولى للانتفاضة، حينما كان على مقاعد الدراسة، في الصف الثاني الابتدائي، مستعيداً حديثه مع زملائه بأنّهم سمعوا بأنّ الأحداث سوف تستمر هذه المرّة ولن تتوقف، مما يذكر بوجود أحداث تمهيدية متقطعة سبقت الانفجار الكبير المستمر، ولعله، لم يكن يدور في خلد ساري أن تلك الانتفاضة سوف تساهم في بلورة شخصيته، وتضعه على طريق مختلف عن طريق زملائه في الصفّ ذلك الوقت.   مشاهدات من الانتفاضة الأولى ترتبت المشاهدات وما عكسته على وعي ساري على 3 أقسام: القرية، والمدينة، والمسجد، أما القرية، وهي رافات، فيروي ساري عن ما علق في قلبه وعقله من مشاهد بدايات الانتفاضة في قريته: "مشهد القرية، مثل أيّ قرية من قرى فلسطين خلال الانتفاضة، هناك ملثمون، وهناك استعراضات، باللباس العسكري وباللثام، والسلاح الأبيض، إذ لم يكن السلاح الناري منتشراً آنذاك، باعتبار أن الانتفاضة، لا تزال انتفاضة شعبية، ذات طابع مدني في الدرجة الأولى"، ولكن ليس ذلك وحسب ما يميز رافات فخصوصية موقعها بالقرب من معسكر (عوفر) الصهيوني جعل منها ساحةً شبه دائمة لاقتحامات قوات الاحتلال والمواجهات معها، إذ كانت مهمة أفراد القوى الضاربة من أبناء الفصائل الثلاثة الرئيسية في رافات حينها: حماس، وفتح، والجبهة الديمقراطية، التصدي لدوريات الاحتلال المقتحمة للقرية، وكتابة الشعارات على الجدران، والتي كانت لا تشكل وسيلةً لإيصال الرسالة السياسية فقط، بل وسيلةً مهمةً للاتصال الجماهيري خلال الانتفاضة الأولى.   كان كاتبو شعارات الانتفاضة الهدف الرئيسي لوحدات (شمشون)، أو المستعربين في قوات جيش الاحتلال الصهيوني، واستشهد العديد منهم على يدّ تلك القوات، ولا يزال ساري يذكر تلك الليلة التي اقتحمت فيها، بعد صلاة العشاء، سيارات المستعربين قرية رافات لتطلق النار على عددٍ من الشباب اللذين كانوا يقومون بكتابة شعارات الانتفاضة على جدران القرية، فاضطر ساري، وهو لم يزل طفلاً صغيراً في التاسعة من عمره، للاختباء مع عدد من شباب القرية في أحد الدكاكين، في وسط القرية، بجانب مكان الحادثة، ريثما انسحبت وحدات المستعربين، يصف ساري عرابي تلك اللحظات بقوله: "بإمكانك أن تتخيل طفلاً عمره 9 سنوات، بعد صلاة العشاء، في وقت متأخر من الليل، محشور مع جماعة من الشبان داخل دكان، يغلقون على أنفسهم الباب، بعد اقتحام قوات المستعربين القرية وإطلاقها النار على الذين يكتبون الشعارات على الجدران، وإصابة أحد هؤلاء الشبان بطلق في رجله، وتمكنه من الاختفاء".   أما رام الله، وهي المدينة، فلها حكايةٌ تختلف في الانتفاضة الأولى عن الصورة التي تروج للمدينة اليوم، فقدّ كانت المدينة وأهلها في حالة اشتباك يومية دائمة مع الاحتلال الصهيوني، على نحو أكثر صخباً وأكثر قوة، وأكثر عنفاً، من رافات، إذ كانت قوات الاحتلال موجودة بشكل دائم داخل المدينة، فما يسمى اليوم بمقر المقاطعة، كان مقر ما يسمى بالإدارة المدنية لسلطات الاحتلال الصهيوني في رام الله، وكان فيه سجن رام الله، وكذلك مركز شرطة الاحتلال الصهيوني، الذي كان بالقرب من سوق الخضار الرئيس في البيرة، شقيقة رام الله، بالإضافة لوجود مستوطنتين جاثمتين على أراضي رام الله والبيرة، وهما (بساغوت) المغتصبة لأراضي منطقة جبل الطويل، ومستوطنة (بيت إيل)، وكان طريق المستوطنين الاعتيادي يمر برام الله والبيرة، لا سيما الشارع الرئيسي الذي يفصل رام الله عن البيرة.   في رام الله والبيرة، كان هناك حالة اشتباك دائمة مع قوات الاحتلال، وبشكل يومي، وعن ذكرياته مع رام الله يخبرنا ساري: " كنا وكلما نزلنا إلى المدينة القريبة منا نتعرض لاستنشاق الغاز المسيل للدموع، استنشقت غاز الاحتلال آلاف المرات، حينما كنت صغيراً في تلك المرحلة"، ربما تكون الحالة الأقرب للتشبيه برام الله في الانتفاضة الأولى في يومنا هذا هي العيساوية، بما تحويه من خصوصيةٍ في المشهد المقدسي والفلسطيني العام، إذ تمر منها سيارات شرطة ومخابرات الاحتلال الصهيوني يومياً، لخصوصية موقعها الجغرافي بين مستوطنات الاحتلال الصهيوني في القدس، ومراكز شرطته ومخابراته.   "عند انتقالي للدراسة الإعدادية في البيرة، وكان عمري آنذاك بين ال 12 و ال 13 عاماً، استمرت تلك المرحلة 3 سنوات، امتدت من الصف السابع ولغاية الصف التاسع وبدايات الصف العاشر، كانت قوات الاحتلال الصهيوني لا تزال في مدينة رام الله، وكان المستوطنون لا يزالون يمرون في شارع القدس الرئيسي، الذي يفصل بين البيرة ورام الله، وهنا أُتيحت فرصة الاشتباك مع مستوطني الاحتلال يوميّاً بترصّد سياراتهم العابرة لهذه الطريق، وذلك في ذيول وأواخر الانتفاضة الأولى". خلال تلك الفترة تعرض ساري للاعتقال الأول من قوات الاحتلال الصهيوني، وكان عمري 15 عاماً، وذلك قبيل خروج الاحتلال الصهيوني من مدينة رام الله، في العام 1995، وفي آب منه تحديداً، إذ شهدت رام الله ومعظم مدن الضفة الغربية تفاعلاً عارماً، ومواجهاتٍ وفعالياتٍ شعبية مواكبة لإضراب شامل أعلنه الأسرى في سجون الاحتلال الصهيوني، وسمي بمعركة الأمعاء الخاوية. كانت رام الله ساحة حرب حقيقية كما يصفها ساري عرابي، الذي اعتقل خلالها من وسط مدينة رام الله وجيوبه مليئةٌ بالمنشورات، ونقل فوراً لمقر شرطة الاحتلال في رام الله. داخل مقر شرطة الاحتلال الصهيوني في رام الله لا تزال تفاصيل ما رآه ساري ماثلةً أمامه لغاية اليوم: "رأيت وجوه جنود الاحتلال الصهيوني وأجسادهم والدماء تكسوها، وغير قادرين على المشي، تحت وطأة حجارة الشبان"، وخلال التوقيف تعرض ساري للضرب والتنكيل من قوات الاحتلال، وأفرج عنه بكفالة لاحقاً، كونه لم يكن يحمل بطاقة الهوية بعد.   انتفاضة المساجد في مساجد الضفة الغربية وقطاع غزة، في مدنها وقراها ومخيماتها، تولد عملٌ رديف لأنشطة الانتفاضة ومقاومة المحتل الصهيوني، على يد حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وأسهم هذا العمل المسجدي الذي امتدّ لسنوات عدة، ولاحقه الاحتلال، وفي وقت لاحق السلطة، في خلق أجيالٍ من الشباب انخرطت في أنشطة مقاومة الاحتلال خلال الانتفاضتين، الأولى والثانية.      تضمن العمل المسجدي في تلك الفترة: الحلقات والدروس بمختلف أنواعها، ودوريات كرة القدم، والمسرحيات الوطنية، وحفلات تكريم المتفوقين في المدارس، واتخاذ المساجد بديلاً حين إغلاق سلطات الاحتلال الصهيوني للمدارس، كنوع من النشاط المجتمعي، والتعويض والتعاضد والتآلف المجتمعي، لمواجهة إغلاق المدارس في ذلك الوقت. يتحدث ساري عرابي عن تلك التجربة له كطفلٍ من الأطفال الذين تربوا في أكناف المساجد خلال الانتفاضة الأولى: " كنا نشاهد داخل المساجد أشرطة الفيديو التي كانت تتحدث عن الانتفاضة، وأشرطة أخرى تتحدث عن بعض الفصائل الفلسطينية، وأشرطة أخرى تتحدث عن الجهاد الأفغاني حتى، وهذه الأفلام وغيرها كانت ترفع المعنويات وتحرض على العمل المقاوم ضد الاحتلال الصهيوني، ومن الأفلام التي أذكرها من تلك الفترة: فيلم عمر المختار، وفيلم الرسالة، هذه 3 مشاهد أساسية مررت بها خلال الانتفاضة في مرحلة الطفولة".   جيل الانتفاضتين " يمكنني أن أقول إن تلك التجربة هي من تفتح بها وعيي، تفتح وعيي بها طفلاً، وزاد وعيي بها تفتحاً مراهقاً في ذلك الحين، وتلك المرحلة، هي التي حكمت كل حياتي فيما بعد، حكمت كل مسار حياتي فيما بعد". هذه التجربة التي يسعى ساري لتلخصيها في عدة جمل لا تقتصر عليه وحده بل هي سمة عامة تحكمت في مسارات حياة الآلاف من الشباب الفلسطينيين الذين شبوا واشتدّ عودهم مع الانتفاضة الفلسطينية (انتفاضة الأقصى)، وعلى الرغم من كم الرعب الذي علق في مخيلة ساري كطفل بفعل ما شهده من حوادثٍ دائمةٍ لإطلاق النار، وإطلاق قنابل الصوت والغاز، إذ كان المشي في شوارع المدينة خلال الانتفاضة الأولى ينطوي على خطرٍ حقيقي، لأنك من الممكن أن تصطدم بقنبلة غاز أو قنبلة صوت في أيّ وقت، لأن الاشتباك بين شبان الانتفاضة وقوات الاحتلال قدّ يثور في أي وقت، إلّا أنّ ساري لا يزال يذكر يوميات الانتفاضة الفلسطينية الأولى بالكثير من البهجة والتعلق العاطفي. يصف ساري أسباب ذاك التعلق بقوله: "ربما لأن لتلك المرحلة سحرها الخاص، ولها خصوصيتها كهبة شعبية فلسطينية شاملة، شاركت فيها جميع الأطياف الفلسطينية، وما حصل خلال الانتفاضة شيء فريد واستثنائي ومختلف عما سبق في تاريخ المقاومة الفلسطينية للاحتلال الصهيوني، وكانت أكبر حالة اشتباك مع الاحتلال الصهيوني في الأرض المحتلة، منذ العام 1967".   ومن مظاهر وظواهر التميز والفرادة في الانتفاضة الفلسطينية الأولى كما يصفها ساري عرابي: ظاهرة الملثمين، والكتابة على الجدران "بحد ذاتها كانت فعل له تأثيره الخاص"، بالإضافة لأغانيها وأناشيدها، "كانت الانتفاضة حالة شعبية شديدة النقاء، بالرغم من بعض الخلافات بين الفصائل أو محاولة الاحتلال خلق فتنة بين العائلات الفلسطينية في المدن والقرى والمخيمات، ولكن في الحقيقة أثبت المجتمع الفلسطيني عصاميته وقدرته على إدارة نفسه ومواجهة كل الفتن والإشكاليات المحتملة، ومحاولات الاحتلال لشق المجتمع الفلسطيني".   الانتفاضة الفلسطينية الأولى كحالة تعبوية مثلت انتفاضة الحجارة مدرسةً تنظيميةً تعبوية لدى معظم من دخل في مرحلة المراهقة خلال سنواتها الوسطى والأخيرة، تحديداً، إذ بدأ الشكل التنظيمي للانتفاضة بالنضج لدى كافة فصائل المقاومة الفلسطينية المنخرطة فيها، وعلى صعيد حركات مقاومة إسلامية، مثل: حماس والجهاد الإسلامي، انعكس النضج التنظيمي والتعبوي، والعمل التوعوي لجيل الفتيان عبر تأسيس الكتل الطلابية في المدارس، والعمل المسجدي بكافة تجليّاته، فتفتح وعي جيلٍ بأكمله من الفتيان الفلسطينيين على المنشور، والمجلة التنظيمية الفلسطينية الفصائلية، والنشرة التنظيمية، وفكرة الكتابة على الجدران، وفكرة التربي في المسجد في فترات إغلاق المدارس من قبل سلطات الاحتلال الصهيوني. بحسب ساري عرابي ، ربما كانت الانتفاضة الأولى من أعظم حالات التثقيف السياسي العام لشعب من الشعوب، أو أمة من الأمم، أما الكتل الطلابية المدرسية، فقدّ شكلت حاضنة تنظيمية ينتقل منها الطالب إلى الكتل الطلابية في الجامعات الوطنية الفلسطينية، والتي كان لها دورٌ فعّال خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وما بعدها.   القدس قبل ال 2000 " أنا أسكن في قرية ملتصقة بالقدس، والمسجد الأقصـى يبعد عن بيتي حوالي 11 كيلومتراً هوائيّاً، ومع ذلك فأنا لا أستطيع الآن الوصول إلى المسجد الأقصى المبارك، ولكن في ذلك الوقت كان يمكننا الوصول إلى المسجد الأقصى، ولا زلت أذكر دخولنا للمسجد الأقصى، وإحياءنا بعض ليالي القدر داخل المسجد". هكذا كانت القدس وأقصاها كما يروي لنا ساري عرابي عن ذكريّاته عن أيّام الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وفي تلك المرحلة أيضاً يذكر ساري كيف كان هو وأقرانه من فتيان المساجد في مرحلة الانتفاضة الفلسطينية الأولى يدخلون مدن وقرى فلسطين المحتلة عام 1948، ويشاركون في مهرجانات وأنشطة الحركة الإسلامية في الداخل المحتل، والتي كانت في معظمها ترفد الحالة المرابطة في المسجد الأقصى المبارك.   "في الفترات الأخيرة من الانتفاضة وبالرغم من صغر سني، إلّا أنني كنت أذهب وحدي للمسجد الأقصى، ولا زلت أكثر أيضاً دخولنا لفلسطين المحتلة عام 1948، ومشاركتنا في مهرجانات الحركة الإسلامية في الداخل المحتل، ومن ضمن المواد المرئية التي كانت تُعرض لنا في المساجد خلال الانتفاضة، أشرطة الفيديو التي توثق الفعاليات الجماهيرية المتضامنة مع الانتفاضة في العواصم العربية، مثل عمّان والكويت".              
. . .
رابط مختصر
مشاركة الخبر: