العيساوية.. نموذج المقــاومة الشعبية الحقيقية
في العيساوية أصبحت المجابهة مع جيش وشرطة الاحتلال ومخابراته وأجهزته المدنية والأمنية نمط حياة وثقافة، والمحتل في القدس لا يقدم للعرب المقدسيين غير الحلول الأمنية، فهو يعتبرهم فقط تجمعات سكانية مجردين من أية حقوق، همّه الأساس كيفية محاصرتهم وحملهم على الهجرة او الطرد والترحيل القسري، لا تراخيص بناء تستجيب للزيادة السكانية في عدد السكان ولا إقرار لمخططات هيكلية تستجيب للزيادة السكانية أيضاً، وأرض يجري مصادرتها من أجل إقامة حدائق تلمودية وتوراتية، أو من أجل إقامة أبنية استيطانية، ولا مرافق ولا خدمات عامة.
وعملية هدم المنازل لا تتوقف والحجج والذرائع البناء غير المرخص، وكذلك إخطارات بالهدم شبه دائمة مع غرامات باهظة على البناء غير المرخص، والذي في النهاية بعد استنزاف المواطن مادياً تهدمه جرافات وبلدوزرات الاحتلال، ويتكفل المواطن بتكاليف القوات والآليات التي هدمت منزله، أو يُجبر على هدمه ذاتياً، المهم "حلْب" السكان ضرائبياً، وخدمات لا تساوي سوى 7 -8 % من قيمة الضرائب التي تجمع من السكان والتي تذهب لـ"تسمين" المستوطنات المقامة على الأرض الفلسطينية أو للتطوير والتحسين في القسم الغربي من المدينة.
إضافة إلى الاقتحامات اليومية والمداهمات والتفتيش والقمع والإذلال والاعتقالات والإبعادات ضمن سياسة الاحتلال وأجهزة مخابراته لسان حالها يقول من لا يخضع بالقوة، يخضع بالمزيد منها..
هناك 1300 مواطن ما بين طفل وفتى وشاب جرى اعتقالهم من العيساوية خلال عام ونصف، مؤشر على أن الاعتقالات طالت كل بيت وأسرة في العيساوية وحوالي 15 مواطنًا فقدوا عيونهم نتيجة إطلاق الرصاص المطاطي عليهم، والهدف هنا واضح كسر إرادة أهالي العيساوية وتحطيم معنوياتهم، لمنعهم من تشكيل نموذج مقدسي يحتذى به في المقاومة الشعبية.
وأهالي العيساوية وكل مكوناتهم ومركباتهم الوطنية والمجتمعية يخوضون مقاومتهم الشعبية، ليس من خلال بيان أو قرار فوقي مسقط عليهم، بل نابع هذا القرار والخيار مما يواجهونه في أرض الواقع من قمع وبطش وتنكيل من قبل أجهزة الاحتلال المدنية والأمنية، وكأن المحتل يقول لن نسمح أن تعمم تجربة العيساوية في المقاومة الشعبية على باقي قرى وبلدات مدينة القدس.
والعيساوية لم تعد مقاومتها فقط فوقية أو نخبوية ومقتصرة على القوى والأحزاب وأعضائها وجمهورها ومناصريها، بل أضحت ثقافة عامة يشترك فيها أوسع طيف من السكان لشعورهم بأن المحتل يستهدف وجودهم ويريد اقتلاعهم وطردهم.
المحتل يرفض التعاطي مع أية أجسام شرعية تعبر عن هموم السكان وحقوقهم ومطالبهم، بل يريد منهم التعاطي مع أجهزة ومؤسسات مرتبطة به مباشرة، لكي يحكم السيطرة على تفاصيل حياة السكان اليومية اقتصادية واجتماعية، والتي يجري ربطها من خلال مؤسساته المدنية والأمنية مراكز وشرطة جماهيرية ولجان إصلاح مرتبطة بشرطته وكذلك لجان ومؤسسات ما يسمى بالرفاه والتطوير الاجتماعي، والتدخل في أدق تفاصيل المشاكل الأسرية والعائلية، وحتى الخلافات العشائرية، بات هناك شرطة “جماهيرية” تمارس دورها في هذا الجانب.
بلدة تعيش اكتظاظًا سكانيًا، طرقها وشوارعها ضيقة تعيق حركة السير والبنى التحتية غير متوفرة وأناس يتكدسون فوق بعضهم البعض، وكأن ذلك شكل من أشكال العقاب، واحتلال يفرض إرادته ووجوده على السكان بخلاف رغبتهم، وهم يعرفون أنفسهم على أنهم مواطنين تحت الاحتلال، وأرضهم لن يبرحوها، ومحتل يراهن على سياسة البطش والقمع والإخضاع والتطويع والمتغيرات الدولية والإقليمية والعربية وضعف وتشظي الحالة الفلسطينية وبئس قيادتها لكي يخيّر سكان البلدات العربية في القدس، ما بين العيش في المدينة في "جيتوهات" و"معازل" مغلقة في محيط إسرائيلي واسع، من خلال إقامة المستوطنات التي تفصل قراهم عن بعضها البعض، محولاً إياها إلى وحدات اجتماعية مستقلة، ومضعفة الروابط الاجتماعية والوطنية بينها، بحيث يصبح الهم الخاص والعشائري يطغى على الهم الوطني العام، أو عبر إقامة الأبنية والبؤر الاستيطانية في قلب قراهم وأحيائهم النماذج؛ صورباهر، المكبر، سلوان، شعفاط، الطور، وغيرها من القرى والبلدات المقدسية.
في ذروة الهبات الشعبية التي شهدتها مدينة القدس من هبة الشهيد محمد أبو خضير في تموز/2014 وحتى هبة إعادة فتح باب الرحمة تشرين ثاني 2019، حيث العيساوية مشارك رئيسي في تلك الهبات، وتعرضت للعقوبات الجماعية لفترات طويلة، ولمسلسل طويل من القمع والتنكيل وكذلك الحصار والتجويع، مما اضطر مجموعة من القادة الأمنيين والعسكريين الإسرائيليين المتقاعدين وعضو الكنيست والوزير السابق حاييم رامون، ومن بعده الوزير الليكودي زئيف اليكن المنشق حالياً عن الليكود، وزعيم حزب العمل المتلاشي السابق اسحق هيرتسوغ، وعضو الكنيست عن الليكود عنات باركو، لطرح مشاريع الانفصال عن أغلب القرى والبلدات المقدسية في القسم الشرقي من المدينة، بحيث يجري حشر سكانها في معازل خاصة تتحكم “إسرائيل” في مداخلها ومخارجها، ولكن قوى اليمين واليمين المتطرف رفضت ذلك، واعتبرت بأن ذلك تخلي عن فكرة القدس الموحدة كعاصمة لدولة الاحتلال، وبأن ذلك سيقود لتقسيم المدينة من جديد، أو يترك أحلاماً وآمالاً عند السلطة بما يعرف بحل الدولتين.
اليوم واضح بأن درجة " التوحش" و" التغول" الصهيوني على القرى والبلدات المقدسية وفي المقدمة منها العيساوية كبيرة جداً، حيث يشعر المحتل بأن كل الظروف تشكل له فرصة كبيرة لفرض شروطه وإملاءاته وتنفيذ مشاريعه ومخططاته، حيث الإدارة الأمريكية المتصهينة بقيادة المتطرف ترامب نقلت سفارتها من تل أبيب إلى القدس واعترفت بها عاصمة لدولة الاحتلال، ومخططات الضم تسير بوتائر كبيرة، والنظام الرسمي العربي في أوج ضعفه وانهياره ويهرول نحو تطبيع علاقاته العلنية مع دولة الاحتلال، ورسم تحالفات أمنية وعسكرية معها، ولا يمانع في تنفيذ مشاريع ومخططات إسرائيل في مدينة القدس، بما فيها المتعلق بتقسيم الأقصى، والقيادة الفلسطينية ضعيفة ولا تمتلك أدوات فاعلة في القدس، ولذلك دولة الاحتلال في حالة هجوم مستمر، والعيساوية تقع في مقدمة الاستهداف الصهيوني.
العيساوية لم ترفع الراية البيضاء ولم تستلم رغم كل أشكال العقوبات والمعاناة التي تعرضت لها وفتيتها وشبابها وأهلها “تفولذوا” في معمان النضال المستمر، وهم أصحاب إرادة وحلم، والعيساوية تقاتل بلحمها ودمها وتدفع الثمن، أسرى ومعتقلون ومبعدون وشهداء واقتحامات ومداهمات وهدم منازل وعقوبات جماعية ولكن يمتلك أهلها إرادة الصمود.