"السّلسلة".. القبّة الرصاصيّة التي تحوّلت لكنيسة خلال الاحتـلال الصليبي
القدس المحتلة - القسطل: بجانب القُبّة الذهبية التي تسحر عيون الرائين إليها، هناك قُبّة رصاصيّة تصغُرها حجمًا إلى الشرقي من الذهبية، شُيّدت عام 72 للهجري بأمر من الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، طالتها التغييرات عبر الفترات السابقة، أعمدةٌ رخامية وزخرفات تُدهش العين. في هذا التقرير سنأخذكم في جولة قصيرة حول تاريخ هذه القبة التي تسمى بـ”السلسلة” في المسجد الأقصى المبارك.
تقع قبّة السلسلة وهي إحدى القباب الموجودة في المسجد الأقصى، شرقي قبة الصخرة المشرّفة (الذهبيّة)، حيث تم تشييدها بأمر الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان عام 72هـ/ 692م، كما يشير إلى ذلك المؤرّخ عبد الملك بن حبيب في كتاب “التاريخ”.
ووفقًا لابن عبد ربّه مؤلف كتاب العقد الفريد، فإن تسميتها تعود إلى وجود سلسلة كان يمسها المتقاضون، وأن هذه السلسلة كانت حليفة لكل صديق في القول وبعيدة عن كل يكذب، فالصادق يستطيع أن يمسكها بينما تهرب السلسلة من الكاذب.
يقول المقدسيّ إيهاب الجلّاد في كتابه “معالم المسجد الأقصى تحت المجهز” إن المسلمين اعتقدوا بهذه الرواية واعتبروا قبة السلسلة مكان جلوس داود عليه السلام للقضاء، حيث أطلقوا على القبة اسم “محكمة داود”، ونقشوا فوق محراب القبة الآية التالية (والتي تعود للقرن الـ10هـ/ 16م): “بسم الله الرحمن الرحيم يا داوود إنّا جعلناك خليفةً في الأرضِ فاحكمْ بين الناسِ بالحق ولا تتّبع الهوى فيُضلِلكَ عن سبيل الله” (سورة ص آية 26).
وكان يُعقد تحت القبّة مجلس القضاء، للقاضي الحنفيّ في القرن السادس عشر الميلاديّ أي في العهد العثماني.
يوضّح الجلاد أن القبة تتكون من دائرتين، الأولى الخارجية، وتتكون من أحد عشر عمودًا والثانية الداخلية التي تحمل القبة، وتتكون من ستة أعمدة (أي أن المجموع 17 عمودًا رخاميًا) ويوجد محراب في الجهة الجنوبية. ومن جماليات القبة أنك تستطيع رؤية الأعمدة جميعها دون أن يستر أحدها الآخر.
تعرّضت قبة السلسلة عبر العصور لكثير من التغيير في شكلها بسبب الكوارث الطبيعية والتغيرات السياسية. خلال الفترة الأموية - زمن الإنشاء- لم يصل وصف لشكل القبة. ينقل الجلّاد في كتابه ما ذكره المشرّف أن سليمان بن عبد الملك: “أتى بيت المقدس وأتته الوفود بالبيعة، فلم يروا وفادةً كانت أهنأ منها، كان يجلس في قبةٍ في صحن مسجد بيت المقدس مما يلي الصخرة، قد بسطت البسط بين يدي قبّته، عليها النمارق والكراسي”.
تمت كسوة جدران قبة السلسلة بالفسيفساء أسوة بأختها الكبرى قبة الصخرة، حتى الفترة العثمانية - حيث تم وضع القاشاني مكان الفسيفساء-. يصف العمريّ كسوة قبة السلسلة إبّان زيارته 746هـ/ 1345م: “وبأعلى الأعمدة قناطر ملبّسة بالفص المذهّب (الفسيفساء) والأخضر المختلف الألوان”.
أمّا خلال الفترة العباسية، فيخبرنا ابن الفقيه في كتاب مختصر كتاب البلدان (290هـ/ 903م)، إنها تشكّلت من عشرين عمودًا من الرخام: “ومن شرقي قبة الصخرة قبة السلسلة على عشرين عمودًا رخاميًّا ملبّسة بصفائح الرصاص”.
وتضرّت على ما يبدو قبّة السلسلة خلال الفترة الفاطمية، من زلزال 424 هـ/ 1033م فأُعيد بناؤها، حيث يذكر ناصر خسرو في سفر نامه 438هـ/ 1047م: “وهذه القبّة محمولة على رأس ثمانية أعمدة من الرّخام وستّ دعائم من الحجر، وهي مفتوحة من جميع الجوانب عدا جانب القبلة فهو مسدود حتى نهايته، وقد نصب عليها محراب جميل”.
ولم يتغيّر شكل القبّة التي بناها الفاطميّون (ثُمانية الأضلاع)، خلال الاحتلال الصليبي، حيث يُشير إلى ذلك الرّحالة ثيودريش (559هـ/ 1164): “والكنيسة نفسها مستديرة كما أنها واسعة من الأسفل وضيّقة من الأعلى وهي مُدعّمة بثمانية أعمدة”.
وبحسب ما ذكره الجلاد في كتابه، فإن القبة تم تحويلها إلى كنيسة باسم القديس جيمس، حسب ما يروي الرحالة يوحنّا فورزبورغ في كتابه وصف الأراضي المقدّسة (555هـ/1160م): “حيث يوجد باب تجاه الشرق (من قبة الصخرة) مجاور لكنيسة صغيرة مخصصة للقدّيس يعقوب”.
وخلال الفترة الأيوبية، بعد تحرير مدينة القدس، تم ترميم القبّة وإعادة المحراب حيث يذكر الرحالة خالد بن عيسى البلوي (زيارته للشرق عام 740 هـ/ 1340م) إنه شاهد نقشًا (أيوبيًّا) داخل القبّة نصّه: “بسم الله الرحمن الرحيم. وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان، وكلًا أتينا حكمًا وعلمًا، كمل تجديد بطن هذه القبّة السّلسة المباركة ونقش سقفها وتبليطها في شهور سنة ست وتسعين وخمسمائة”.
فالتاريخ الذي ذكره البلوي في النقش يعود للعصر الأيوبي (علمًا أن هذا النقش لم يعد موجودًا، ووضع مكانه النقش العثماني سالف الذكر).
وبيّن الجلّاد أنه في العصر المملوكي، تمت إعادة بناء القبة زمن السلطان الظاهر بيبرس، كما يذكر المؤرخ مجير الدين (900 هـ/ 1495): “..وجدّد بالقدس الشريف أشياء غير عمودَي المحراب (أي تسعة عشر عمودًا).
وفي العصر العثماني، في زمن السلطان سليمان القانوني أيضًا، حدث تغيير في شكل القبة (حيث تم حذف عمودين لتصبح القبّة مكونة من سبعة عشر عمودًا كما هو حالها اليوم). وكذلك استُبدل بالنقش الأيوبي -الذي شاهده البلوي- نقشٌ جديد وكُسيت القبة بالبلاط القاشاني التركي، كما تشير الكتابة على القاشاني.
وخلال العصر الحديث، تم ترميم القبة وتغيير بلاط الأرضية عام 1390 هـ/ 1970م. وبين الأعوام 1430 هـ/ 2009م حتى 1434 هـ/ 2013م أعيد تلبيس القبة بالقاشاني التركي، حيث صُنعت 4300 قطعة بلاط يدويًا بدعم من الحكومة التركية.
تلك القبّة يستظلّ بها المصلون الذين يشدّون الرحال للمسجد الأقصى من كلّ حدب وصوب، تجلس تحتها العائلات الصغيرة، ويلعب حولها الأطفال، وتُقام حلقات علمٍ وذكرٍ فيها. وهي إحدى قباب المسجد الأقصى المبارك الـ14 والتي سنتعرّف عليها في تقاريرنا القادمة.
- مصدر المعلومات من كتاب: معالم المسجد الأقصى تحت المجهر لإيهاب سليم الجلاد - 2017