وادي الرّبابة .. جمالٌ وطبيعة وموقع إستراتيجي في دائرة الاستهداف
القدس المحتلة - القسطل: هو الوادي البديع، الأخضر، متنفّس المقدسيين خاصة أهالي بلدة سلوان، على يمينك وشمالك أشجار الزيتون المعمّرة تملأ المكان. منذ أكثر من خمسين عامًا والفلسطينيون يُحاربون أذرع الاحتلال ممن يحاولون سلبهم هذا الجمال والطبيعة والموقع الاستراتيجي.
وادي الربابة هو أحد أودية بلدة سلوان الواقعة جنوبي المسجد الأقصى المبارك، حيث سُمّي بهذا الاسم نظرًا لشكله، فهو ضيّق من الأعلى ويبدأ بالاتساع في نهايته، وبذلك فهو يشبه آلة “الربابة” الموسيقية العربية القديمة، كما يوضح الدكتور جمال عمرو أن سبب التسمية يعود فعلًا إلى تلك الرّبابة التي كان يحملها الفلسطيني معه خلال رعي الأغنام في هذا الوادي الجميل.
في هذا التقرير، سنُطلعكم على تاريخ وادي الربابة، الذي يُحاول الاحتلال منذ أكثر من عشرين عامًا عبر محاكمه سلب أصحاب الأراضي حقّهم فيه، يتصدّون لما تسمى بـ”سلطة الطبيعة الإسرائيلية” التي تدّعي القيام بأعمال “بستنة” في أراضيهم، لكنها فعليًا تضع يدها على ما تبقّى من أراضي وادي الربابة المسلوبة منذ عام 48.
تقدّر مساحة الأراضي من أعلى وادي الربابة إلى أدناه نحو 500 دونم، وفي حال قمنا باستثناء الأراضي التي تُعتبر ملكية عامة للشعب الفلسطيني (وقفية) والدير الموجود فيه، تكون مساحة الأراضي الخاصة (التي يملكها الناس ملكية خاصة بأوراق ثبوتية) نحو 200 دونم، لكنها بحسب الدكتور جمال عمرو، لا تُحسب بالدونمات وإنما بالقيمة التي لا تقدّر بثمن.
الباحث الأكاديمي والمختص في شؤون القدس عمرو يوضح لـ”القسطل” أن القدس في مفهومها التاريخي تقع على ربوة مرتفعة ارتفاعًا متوسطًا، ومحاطة بسلسلة من الجبال تطل عليها من كل اتجاه، وما بين هذه الجبال والربوة التي أُقيمت عليها مدينة القدس التاريخية في منطقة سلوان صعودًا إلى قمة هذه الربوة الموجود عليها المسجد الأقصى والبلدة القديمة اليوم -حيث أن القدس القديمة كانت قبل أن تكون في وضعها الحالي تتجه جنوبًا باتجاه وادي حلوة سلوان- ما بين الربوة والجبال يوجد مجموعة من الأودية، ووادي الربابة هو أحدها.
ويضيف أن الناظرين إلى وادي الربابة سيجدونه يقع في الناحية الجنوبية الغربية للقدس القديمة ويمتد من الناحية الغربية إلى الناحية الشرقية هبوطًا إلى منطقة منخفضة في سلوان.
ويوضح أن وادي الربابة كان يمتد على أراضي تم احتلالها عام 1948 وجزء منها أقام عليه المليونير اليهودي موشيه مونتفيوري مروحة (مطحنة على الهواء) وإسكانًا، وهو يعتبر أول إسكان أُقيم في القدس.
ويُشير إلى أن هذا المليونير البريطاني خدع الحكومة العثمانية حينما قال إنه سيبني مساكن لاستضافة السائحين الذين لم تعد البلدة القديمة تتسع لهم، فأخذ تصريحًا بذلك وقام ببناء المستوطنة المسماة بـ”يمين موشيه” الموجودة في جورة العنّاب (قرب باب الخليل أحد أبواب البلدة القديمة في القدس)، وهذه كانت امتدادًا لوادي الربابة والذي يبدأ من باب الخليل ويلتف حول التلة المحاذية للبلدة القديمة من الناحية الغربية، ويهبط إلى سلوان.
ما حصل عام 1948 أن هذا الجزء من الأرض المقام عليها هذه المستوطنة، بحسب الأكاديمي عمرو، أن هذه المنطقة وقعت في مرمى النار، وأصبحت منطقة محايدة بين الجيشين “الأردني” والإسرائيلي” في ذلك الوقت، وبقيت 19 عامًا على هذا النحو (منطقة حرام) لكن لها مالكوها وأصحابها الشرعيون.
وعند استكمال احتلال الشطر الشرقي من مدينة القدس عام 1967، عادت منطقة وادي الربابة متّصلة بعضها مع بعض، فنرى اليوم الجزء الغربي منها مليئة بالإسكانات والمستوطنات اليهودية ومحطة القطارات وفندق الملك داوود وغيرها من المؤسسات التابعة للاحتلال.
وهنا يوضّح د.عمرو أن الأراضي التي تهبط من شارع الخليل حيث مبنى مشفى العيون سابقًا والذي أصبح اليوم فندقًا للاحتلال (المبنى ذاته)، هبوطًا إلى سلوان، وعلى ضفتي الوادي توجد أراضٍ فيها أشجار زيتون معمّرة جدًا، ومشاهد طبيعية جميلة خلّابة، وأن هذه المنطقة استهوت الاحتلال وأراد اغتصابها من أصحابها الشرعيين وهم عائلات مقدسية مثل العباسي، سمرين، صيام وغيرهم كُثر ممن يملكون الوادي ملكًا شرعيًا حقيقيًا بأوراق ثبوتية.
ويقول إن الاحتلال لا يُمكنه أن يترك هذا المكان ببساطة للفلسطينيين، وادي خلّاب، منظر ساحر، امتداد استراتيجي، طريق يؤدي إلى أقدم بقعة في الحضارة الإنسانية في القدس وهي منطقة عين سلوان، حيث بداية التاريخ والقدس القديمة الأولى أيام اليبوسيين الكنعانيين الفلسطينيين الأوائل، ولهذا السبب بدأت أطماع الاحتلال بازدياد.
بدأ الاحتلال بانتهاكاته بغية تحقيق أطماعه، يقول د.عمرو: “مرة يُقيم مطعمًا ليليًا في هبوط وادي حلوة، ومرة مضخّة للمياه ضخمة، ثم تسلّل مستوطن يهودي إلى عريشة بُنيت في المكان (..) لتتحول اليوم لمحطة عملاقة ومبنى كبير تُقام فيه احتفالات المتدينين، وشرطة الاحتلال لا تبرح المكان، وهذا بجوار مدرسة دار الأيتام الإسلامية.
ويستذكر الدكتور عمرو، حادثةَ خطفِ أحد المستوطنين لطفل مقدسي والتنكيل به والاعتداء عليه بمساندة عناصر من قوات الاحتلال، وكادوا أن يقتلوه كما قتلوا الطفل محمد أبو خضير في بلدة شعفاط شمالي القدس.
صمود في وجه المُحتل
أما عن أصحاب الأراضي فيقول الباحث الأكاديمي إنهم لم يستسلموا، وواصلوا الاهتمام وحراثة أراضيهم وقطف أشجار الزيتون، لكن الاحتلال بدأ بسلسلة اعتداءات إضافية، فقام من الناحية الشمالية من ضفة وادي الربابة بزراعة مقابر وهمية وقال عنها إنها عبارة عن “مقبرة يهودية قديمة”.
وبعد فترة ازدادت الأمور خطورة عندما دخلت جمعيات استيطانية في تلك القضية وهي ذراع الاحتلال المباشر ومعلوم أنها محمية من الشرطة، وعملت ما تسمى بـ”سلطة الطبيعة والآثار” على الاعتداء على الأراضي تحت مسمى “الإعمار”.
وحسب وصف د.عمرو فإن الإعمار بالنسبة للاحتلال هو”الدمار”، فيبنون هنا مصطبة، وهنا ممرات سياحية، وهناك إنارة، وذلك على مدار خمسين عامًا، خطوة خطوة، وفي الحقيقة تكون هذه بداية لوضع البنى التحتية لمشروع “التل فريك” الذي سيمرّ بالمنطقة، وهذا لم يعد يخفى على أحد، والأطماع تزداد يومًا بعد يوم، حتى أنهم وضعوا حجرًا سياحيًا في آخر وادي الربابة على يمين السائرين نزولًا، عليه كتابات وكأن الوادي لليهود وأمره محسوم ويعبّر عن التاريخ اليهودي.
يبيّن الدكتور عمرو أن الاحتلال مكّن الصهاينة في هذا المكان، بنى لهم مواقف للمركبات، إلى جانب السياحة، وإمكانية الدخول والخروج وسط حراسة مشدّدة من الشرطة “الإسرائيلية”، مع ذلك فالأهالي لم يستسلموا، صلّوا الجمع في أراضيهم، نظّموا وقفات احتجاجية، اعتصموا في أراضيهم، وضعوا أجسادهم أمام جرافات الاحتلال غير آبهين بما يحصل.
ويُلفت إلى أن الأهالي يُطالبون اليوم عبر محاكم الاحتلال بالكف عن الأعمال التي تجري في أراضيهم بحجة “البستنة” من قبل “سلطة الطبيعة” حيث باتت أهدافها واضحة تخدم الاحتلال ومستوطنيه. محاكم قد تستمر لأكثر من عشرين وثلاثين عامًا دون كلل أو ملل من الاحتلال معتقدًا بأن المقدسيين سيكفّون عن المطالبة وسينسون قضيتهم وأراضيهم مع موت أجيال كاملة، وهذا أسلوب الاحتلال الخبيث، لكنهم لا يعرفون أن الأجيال لا تنسى بل إن قضيتهم محفورة في قلوبهم وعقولهم متجذّرة بأجسادهم حتى النصر والحرية.