ماذا قال مُريد البرغوثي عن القُدس قبل رحيله ؟
القدس المحتلة - القسطل: "أخذوا خطى جدتي في طريقها لزيارة الحجة حفيظة وابنتها الحجة رشيدة. أخذوا صَلاتهما وغرفتهما الفقيرة في “البلد القديمة”. أخذوا الحصيرة التي كانتا تلعبان عليها “البرجيس” و”الباصرة”. أخذوا ذلك الدكان الذي كنت أسافر إليه خصيصاً من رام الله لشراء حذاء من الجلد الممتاز، وأعود للعائلة بفطائر من حلويات “زلاطيمو”، وكنافة من حلويات “جعفر”. وبعد ستة عشر كيلومتراً في باص بامية، وبأجرة خمسة قروش، أعود إلى بيتنا في رام الله مزهواً متباهياً. فأنا عائد منها، من القدس".
توفّي مُريد البرغوثي، الشاعر والكاتب الفلسطيني، الذي تمنّى أن يعود لبلده يومًا، تاركًا خلفه 12 مجموعة شعرية، ومن بين قصائده الرائعة، قصيدة (قدسنا العادية إذ نسير فيها غافلين عن “قداستها”)، والتي عبّر فيها عن الحياة في المدينة المحتلّة بحلاوتها ومرّها، وعن ذكرياته التي عاشها يومًا في البلدة القديمة والشيخ جراح والطور.
توفي شاعرنا الفلسطيني أمس في العاصمة الأردنية عمان عن عمر ناهز 77 عاماً. كان البرغوثي متزوجاً من الكاتبة والناقدة المصرية رضوى عاشور، وابنهما الوحيد هو الشاعر تميم البرغوثي الذي نشر عبر حسابه على “فيسبوك” صورة تجمعه بوالديه، وعلّق عليها “رحم الله أبي وأمي”.
وُلد البرغوثي في تموز/ يوليو عام 1944 بقرية دير غسانة قضاء مدينة رام الله، وتلقى تعليمه المدرسي بالضفة الغربية، قبل أن يسافر إلى مصر حيث التحق بجامعة القاهرة وتخرج في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب عام 1967، لكنه لم يستطع بعدها العودة إلى بلاده مثل كثير من الفلسطينيين بالخارج عقب حرب الخامس من حزيران.
أصدر 12 مجموعة شعرية وتُرجمت بعض أشعاره إلى الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والروسية، كما لاقت روايته “رأيت رام الله” صدى كبيراً في الأوساط الأدبية، ونال عنها جائزة نجيب محفوظ للأدب من الجامعة الأميركية بالقاهرة عام 1997. كرمته العديد من المؤسسات الثقافية العربية وحصل على جائزة فلسطين في الشعر عام 2000.
أمّا الآن فسنترككم مع قصيدته التي ذكرناها أعلاه عن القدس، حيث قال فيها:
أَتْعَبَتْنا القُدس. أعني أَتْعَبَتْ كلَّ البَشَر، لا أعرف مدينة على كوكب الأرض أتعبت أهل الأرض كالقدس. مدينة ترفض أن تكون مدينة. أرض ترفض أن تكون أرضاً. وكيف تكون والمقدس يتكدس فيها، وعليها، وحولها، طبقة فوق أخرى وعلى امتداد كل العصور؟ ربما كانت أرضاً قبل إلمام الناس بشكل دنياهم وقبل أن تصلنا أخبار الله، وقبل أن تطأها صنادل الأنبياء ذات السيور الجلد وخطى اليقين. ربما كانت أرضاً يوماً ما لكنها، بكل هذا المقدس، أصبحت، للأسف الشديد، قطعةً من السماوات. هنا سال المقدس غماماً ومعنى وخيالاً، حتى فَقَدَ الحَجَرُ حَجَرِيَّتَهُ والشارعُ شارِعِيَّتَهُ. طارتْ سَقْفِيَّةُ السُّقوف والقِباب فصارت المعاني سُقوفاً للمباني
وارتفعت التآويل، كلما أمسك بها العقل لعلها تتضح، أزاحتها يد الغموض. صلابة القدس سالت ابتهالاتٍ وصلوات. حتى هذا السور الغامق الشاهق الثقيل حولها يبدو قادماً من حلم عتيق يتكرر كلما اجتاز مؤمنٌ أقواسَه وبواباتِه، حلم يتيح للقادم أن يحياه ويُلَحُّ على المُغادِرِ أن يَشتهيه. زحَفَتْ إليها خيولٌ على رُكَبِها المجروحة تصهل تحت أشواق فرسانها المستعدّين للموت. تعاقبتْ عليها المعابد سكناً لروح الإنسان، فأخذت تعلو وتعلو عاماً بعد عام، وقرناً بعد قرن، حتى أصبحتْ جزءاً لا يتجزأ من السماء. وتريد القدس أن تظل سماءً، وغامضة وملتبسة كالسماء.
لكن القدس أرض.
وهي أرض محتلة.
أرض ومحتلة بجيش قويّ، وظيفته الوحيدة أن يبعد جسدي وصوتي وخطوتي وذاكرتي عنها وأن يمنعني إلى الأبد من الوصول إليها. العالم ليس عالم أرواح وغمام. العالم دُوَلٌ وجنودٌ وحدودٌ وجوازاتُ سَفَرْ، تأشيراتٌ وتفتيشٌ إلكتروني وقوانين بناء وضرائب وتصاريح إقامة وسيارات تسير بالبنزين لا بالصلوات. الشرطي وحده الآن هو من يسمح لنا بالصلاة أو يمنعنا عنها. الشرطي الإسرائيلي الآن هو رب المدينة أو يرغب أن يكون رباً. الشرطيّ المسلّح هو من ينظّم ويقرر، لا السماوات ولا التمائم، لا حسرة فاقديها ولا صبوات عشاقها. القدس مدينة كالمدن.
تسألني منذ متى أصبحت القدس مدينة كالمدن؟ وأنا أجيبك: منذ تجاوز عدد الجنود فيها عدد مقدّساتها آلاف المرات. منذ زمنها العتيق عندما اختارت سماويتها، قرر الجنود أن يحبّوها بإشهار السلاح في وجه التاريخ.
القدس مدينة ككل المدن منذ بُنيت حولها الجدران ونقاط التفتيش ومنذ ملأتها المراكز الحكومية والمخبرون وكاميرات التلصص على أعمدة الكهرباء، وقوانين الجنسية ومخافر البوليس ومعسكرات الجيش وجلسات التعذيب ورقص الغزاة في أعياد انتصارهم عليها لا في أعيادها هي. والقدس أصبحت مدينة منذ أن أصبحت مُحَرّمَة علينا.
لا يعرف العالم من القدس إلا قوة الرمز. قبة الصخرة تحديداً هي التي تراها العين فترى القدس وتكتفي.
القدس الديانات، القدس السياسة، القدس الصراع، هي قدس العالم.
لكن العالم ليس معنياً بقدسنا، قدس الناس.
قدس البيوت والشوارع المبلطة والأسواق الشعبية حيث التوابل والمخللات، قدس الكلية العربية، والمدرسة الرشيدية، والمدرسة العمرية، قدس العتالين ومترجمي السياح الذين يعرفون من كل لغة ما يكفل لهم ثلاث وجبات معقولة في اليوم. خان الزيت وباعة التحف والصدف والكعك بالسمسم. المكتبة والطبيب والمحامي والمهندس وفساتين العرائس الغاليات المهور. مواقف الباصات المقبلة كل صباح من كل القرى بفلاحين يبيعون ويشترون. قدس الجبنة البيضاء والزيت والزيتون والزعتر، وسلال التين والقلائد والجلود، وشارع صلاح الدين. جارتنا الراهبة وجارها المؤذن المستعجل دائماً. السعف الماشي على الطرقات في أحد السعف. قدس النباتات المنزلية والأزقة المبلطة والممرات المسقوفة. قدس حبال الغسيل. هذه القدس هي قدس حواسنا وأجسامنا وطفولتنا. هي القدس التي نسير فيها غافلين عن “قداستها” لأننا فيها. لأنها نحن.
نتجول فيها بطيئين أو مسرعين بصنادلنا أو بأحذيتنا البنية أو السوداء نساوم الباعة ونشتري ملابس العيد.
نتحوج لرمضان وندّعي الصيام، ونشعر بتلك اللذاذة الغامضة عندما تلامس أجسامنا المراهقة أجسام السائحات الأوروبيات في سبت النور. نشاركهن ظلام كنيسة القيامة ونرفع معهن الشموع البيضاء التي تنيرها.
هذه القدس العادية، قدس أوقاتنا الصغيرة التي ننساها بسرعة، لأننا لن نحتاج إلى تذكرها، ولأنها عادية كما أن الماء ماء والبرق برق، كلما ضاعت من أيدينا صعدت إلى الرمز. إلى السماء.
كل الصراعات تفضل الرموز. القدس الآن هي الآن قدس اللاهوت. العالم معني بـ”وضع” القدس، بفكرتها وأسطورتها. أما حياتنا في القدس وقدس حياتنا فلا تعنيه. إن قدس السماء ستحيا دائماً أما حياتنا فيها فمهدّدة بالزوال. إنهم يحددون عدد الفلسطينيين فيها، وعدد البيوت الفلسطينية، والنوافذ والشرفات والمدارس والحضانات، وعدد المصلّين في يوم الجمعة والأحد. إنهم يحددون للسائح من أين يشتري هداياه، وأي أزقة يسلك، وأي البازارات يدخل.
الآن، نحن لا نستطيع دخولها سائحين ولا طلاباً ولا عجائز.
الآن، لا نقيم فيها ولا نرحل.
الآن، لا يستبدّ بنا السأم فيها فنهاجر منها إلى نابلس، أو الشام، أو بغداد، أو القاهرة، أو أميركا.
الآن، لا نستطيع أن نكرهها بسبب غلاء الإيجارات مثلاً.
الآن، لا نستطيع أن نتذمّر منها كما يتذمّر الناس من مدنهم وعواصمهم المملّة المرهقة.
أسوأ ما في المدن المحتلة أن أبناءها لا يستطيعون السخرية منها.
من يستطيع أن يسخر من مدينة القدس؟
الآن لا تصلنا المكاتيب على عناويننا فيها. أخذوا عناوين بيوتنا وغبار أدراجنا. أخذوا ازدحامها وأبوابها وحاراتها. أخذوا حتى ذلك المبغى السري الذي كان يثير خيالاتنا المراهقة في حارة باب الحطة، بغانياته البدينات كتماثيل الهند. أخذوا مستشفى المطّلع، وجبل الطور الذي سكن فيه خالي عطا وحي الشيخ جراح الذي سكنّا فيه ذات يوم. أخذوا تثاؤب التلاميذ فوق مكاتبهم ومللهم من الحصة الأخيرة يوم الثلاثاء. أخذوا خطى جدتي في طريقها لزيارة الحجة حفيظة وابنتها الحجة رشيدة. أخذوا صَلاتهما وغرفتهما الفقيرة في “البلد القديمة”. أخذوا الحصيرة التي كانتا تلعبان عليها “البرجيس” و”الباصرة”. أخذوا ذلك الدكان الذي كنت أسافر إليه خصيصاً من رام الله لشراء حذاء من الجلد الممتاز، وأعود للعائلة بفطائر من حلويات “زلاطيمو”، وكنافة من حلويات “جعفر”. وبعد ستة عشر كيلومتراً في باص بامية، وبأجرة خمسة قروش، أعود إلى بيتنا في رام الله مزهواً متباهياً. فأنا عائد منها، من القدس.
الآن لن أرى قدس السماء
ولن أرى قدس حبال الغسيل.
لأن إسرائيل،
متذرعة “بالسماء”
احتلت “الأرض”!