حِليُّ الأسيرات
مساحات الوقت المتاحة في السجن تمنحك الفرصة للتفكير في المفقود في سياق الحرمان الناتج عن الاعتقال وظروف السجن التي تسلبك خصوصية التمتع بكثير من متع الحياة، تمنحك الفرصة للتفكير في ذاتك، في حقيقة رغباتك التي لا سبيل لوصلها.
كنساء نفتقد الزينة والحلي وما اتصل بها، عند الاعتقال تُسلب منا كل ما نتزين به إن وجد؛ كالساعة والخواتم والعقد والأساور حتى "دبلة الارتباط"، وتبقى في الأمانات، قد تستطيع أي أسيرة المطالبة بخاتم خطوبتها أو زواجها لتسترده من الأمانات ولكن بقية الحلي فممنوع.
قد يبدو الموضوع سخيفًا للبعض ولكن في السجن تلح علينا ملامحنا الداخلية وتأبى إلا أن تفرض حضورها بشكل أو بآخر، وقد كنت أنتبه للسجانات بدون قصد، لشكل طلاء الأظافر أو العقد على رقبتها أو أي زينة أخرى حتى صبغة الشعر، من باب الانتباه للتفاصيل ومن باب تعويض جانب الحرمان بالاكتفاء بمتعة التأمل، لهذا قد أنسى كل تفاصيل السجانات وأشكالهن أو حتى ما يطلبنه منا ولكن لا أنسى التفاصيل التي كانت تحررني للحظات، وأذكر إحدى الأسيرات التي وصلتنا في السجن بحقيبتها ولم تنتبه السجانات إلى بعض ما دخل فيها من مستحضرات زينة، احتفلت بها الأسيرات واستفدن منها في بعض المناسبات.
ذات مرة عبرت عن اشتياقي لذهبي، ولرغبتي بحلق لأذني؛ فتكرمت أسيرة بإهدائي واحدًا تمكنت من إدخاله دون انتباه السجانين وفرحت به كثيرًا حتى تحرر معي ولا زلت أستعمله وأشعر بامتنان عظيم لما أشبعته من حاجة أو أمنية تبدو خيالية.
في السجن تعوض الأسيرات هذه المساحة بأشغال يدوية لطيفة ومميزة تستثمر المتوفر من مواد لصناعتها، الخرز والخيوط الأقمشة وبعض المواد التي كانت تدخل من خلال الصليب الأحمر، تصنع منها الأسيرات الحلي للتزين بها أو لتهديها للعائلة والأصدقاء، وكذلك أعمال التطريز أو التخطيط أو المسابح، كلها كانت تخرج من خلال زيارات العائلات.
الوقت في السجن لا يُقطع دون ملء بالأعمال كالقراءة أو الكتابة أو الأشغال الفنية أو الحديث وغير ذلك، ولكن ميزة الأشغال الفنية أنها وسيلة تملأ وقتًا طويلًا، كما تحتاج الكثير من الجهد والتركيز، إلا أن المهم أنها وسيلة تفريغ فعالة، تخرج الكبت الموجود، وتعيد للنفس توازنها، وتشعر الأسيرة بالإنجاز الذي يمكن أن تشاركها فيه الأسيرات بالتشجيع والاحتفال، كما هي وسيلة تواصل مع الأهل من خلال كمّ المشاعر المختزل والمختزن في شكل قطعة فنية تحمل كل الود والأشواق لتسافر عبر أسلاك السجن فتعانق بالنيابة عنا كل الذين غابوا عنا، الأهل والحرية، ورسالة ملونة بلا حروف!
وأكاد أجزم أن توفر هذه المواد الفنية والمشغولات تخفف الكثير من التقلبات النفسية والمزاجية للأسيرات، وتصرفهن عن كثير من الاختلاف أو التصادم، ولكن إمعانًا في سياسة الحرمان والتضييق منع الاحتلال دخول المواد المستخدمة في الأعمال الفنية، ولم يقدم الصليب أي خدمات في هذا الجانب حاليًا، وفي خطوة تالية منع الاحتلال إخراج أي أعمال فنية تنتجها الأسيرات، بل في مرات كثيرة صادر أشغال الأسيرات التي يتم إخراجها مع الأسيرة المفرج عنها!.
كانت تحرص الأسيرات على استخدام ألوان العلم الفلسطيني في بعض الحلي المنتجة، وأحيانًا كنا نودع الأسيرة بأسوارة كُتب عليها: "دمتِ حرة"، وكانت تحرص الأسيرة المفرج عنها إظهار هذه الأعمال ليس من باب الرفاهية الاعتقالية ولكنها كانت شكلًا من أشكال التحدي ومقاومة القهر والحرمان، أذكر أسيرة مضى على اعتقالها ثلاث سنوات عرضت عليّ إنتاجها فكان كله لبناتها الصغيرات، بأشكال مختلفة ومميزة، تكشف عن جمال ما تملكه الأسيرات، وما يتعلمنه من بعضهن عندما تتوفر الفرصة.
في كثير من الأحيان تخضع بقية المواد المتوفرة لدى بعض الأسيرات اللاتي مر على اعتقالهن أكثر من سنتين لقانون "ندرة الموارد"، فتحصل مقايضات داخل مجتمع الأسيرات تحكمها المصلحة المتبادلة والعلاقة وأحيانًا لا تأخذ صيغة المقايضة بل الهدية؛ لأن صفة الكرم والمنح بلا مقابل موجودة لدى الأسيرات خاصة لمن يتملكن قلوبهن.
قد يلغي السجن مساحات الحرية بالقيد والحرمان؛ ولكننا كنا نملك وسائلنا للتحرر المؤقت ليس بغرض الإشباع لأن هذا غير ممكن ولكن بغرض المتعة والتواصل مع الذات والتعبير عن الحنين بصورة ما.
الأسيرة المحرّرة إسراء لافي
. . .