حمام الشفا بالقدس.. معلم حضاري يواجه التهويد
القدس المحتلة - القسطل: حمام الشفا هو حمام أثري يعود تاريخه إلى العصر المملوكي في فلسطين. يقع داخل أسوار البلدة القديمة لمدينة القدس، في سوق القطانين من الجهة الشرقية بالحي الإسلامي. أنشأه الأمير سيف الدين تنكز الناصري في سنة 1336، في عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون. وهو واحد من حمامين إثنين باقيين في البلدة القديمة إلى الآن.[1]
يتم الدخول إلى حمام الشفا عبر غرفة صغيرة مستطيلة الشكل تقوم بوظيفة بهو الاستقبال، ومنها يتم الدخول إلى القاعة الرئيس في الحمام، وهي غرفة المشلح التي يتم فيها أيضاً تناول المشروبات.[2]
تأخذ غرفة المشلح شكل المربع تقريباً. وفي وسطها حوض رخامي، ثماني الشكل. وتوجد مصاطب حجرية لجلوس المستحمين، على جوانبها الشرقية، والغربية، والجنوبية. ويغطي سقفها قبو مروحي، في أعلاه فتحة دائرية الشكل. ثم يتوصل من غرفة المشلح، عبر ممر ضيق مغطى، إلى غرفة دافئة، تقوم عليها قبة ضحلة، وتتخللها فتحات فخارية مغطاة بالزجاج، تسمح بإدخال الضوء، ولا تسمح بإخراج الحرارة. كما توجد مصاطب حجرية يجلس عليها المستحمون على الغرفة. وذلك لكي تتكيف أجسامهم مع الحرارة قبل الدخول إلى بيت الحرارة. ثم يتوصل إل القسم الثالث من الحمام، وهو بيت الحرارة، عبر بقية الممر الضيق المغطى. وفيه عدد من الأحواض لتجميع الماء الساخن.[3]
يقول الأكاديمي والباحث في الشأن الإسرائيلي والمقدسي محمد هلسة لـ"القسطل" إن الزخارف الموجودة داخل هذا حمام الشفا والانشاء والتصميم الهندسي الذي جرى لهذا الحمام في تلك الفترة يدل على مهارة فائقة كما ويدل على وجود روح مهنية عالية جداً في تلك الفترة التاريخية التي أنشأ فيها هذا الحمام.
يضيف هلسة أن وجود هذا الحمام إن دل على شيء فإنما يدل بشكل أساسي على طبيعة الحياة المتقدمة التي كانت موجودة في تلك الفترة، كما كان أحد أهداف اقامته متعلق بالنظافة الشخصية ووجوده بقلق مدينة القدس والبلدة القديمة وبجوار المسجد الأقصى حمل أهمية أخرى تاريخية دينية صحية اجتماعية، وأنت تعلم أن الحمامات التي كانت موجودة في تلك الفترة شكلت أيضاً منصة وساحة وفضاء للالتقاء وتبادل المعلومات والتعارف والعلاقات الاجتماعية المختلفة. كما أن وجود هذه الحمامات في البلدة القديمة في مدينة القدس في تلك الفترة فقد دل على وجود حياة ثقافية حضارية اجتماعية.
يقسم حمام الشفا إلى ثلاث أقسام؛ الأول، عبارة عن أحواض تجميع الماء الساخن للمستحمين، والثاني، عبارة عن غرف الاستحمام الثالث للمغطس. ويقوم على غرف والمغطس قباب ضحلة تتخللها فتحات فخارية مغطاة بالزجاج، ويأتي بيت النار اللازم لتسخين الماء (الإقليم/الموقد) في الخلف.[4]
ويعتبر حمام الشفا واحد من حمامين إثنين باقيين في البلدة القديمة إلى الآن (مع حمام العين)، وهو الآن جزء من مركز دراسات القدس التابع لجامعة القدس.[5]
سمي الحمام بهذا الاسم للاعتقاد بأن كل مريض يستحم فيه يشفى بأمر الله، كما تحفل سجلات محكمة القدس الشرعية ودفاتر الطابو العثمانية بالوثائق التي تتناول شؤون هذا المعلم التاريخي الهام وشؤون أوقافه والعملين فيه. وقد ناهزت وارداته في القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي (4000) أقجة. أما اليوم فهو غير مستعمل كما تحفل وثائق إحياء التراث والبحوث الإسلامية، بالوثائق التي تبين دور المجلس الإسلامي الأعلى في رعاية هذا الحمام وتعميره وتنظيم عقود إجارته.[6]
يشير الأكاديمي هلسة إلى أنه خلال الفترات التاريخية المتقدمة ما بعد فترة الانتداب البريطاني والاحتلال "الإسرائيلي" لاحقاً في ظل التطور التكنولوجي وبفضل وجود صنابير المياه التي وصلت جميع بيوت البلدة القديمة قلت أهمية هذه الحمامات ولم يعد الكثير من الناس يلجؤون إليها واكتفوا بوجود الحمامات الشخصية بداخل مناولهم وأماكنهم التجارية، ولكن الجهود التي تنصب الآن على إعادة إحياء هذه المواقع تأتي في سياق الحفاظ على هذا الموروث التاريخي الأثري بداخل البلدة القديمة كجزء من الحفاظ على الهوية الوطنية العربية الإسلامية في داخل مدينة القدس.
أعمال الترميم
بالرغم من المعيقات التي يضعها الاحتلال "الإسرائيلي" للوقوف في وجه أي محاولة لترميم الأماكن التاريخية والدينية في مدينة القدس لإتاحتها أمام الجمهور الفلسطيني والسياح الأجانب، استكملت جامعة القدس بالشراكة مع الأوقاف بالقدس الشريف مهمة ترميم حمام العين الذي يقع بجوار حمام الشفاء.
ووفقاً للأكاديمي هلسة فقد افتتحت جامعة القدس حمام العين في منتصف عام 2019 وهنالك مساعي لترميم حمام الشفاء واستكمال ترميم خان تنكز، وبالمناسبة حمام العين والشفاء هما الحمامان الرئيسيان الموجودان داخل البلدة القديمة، وهناك حديث عن اكتشاف حمام آخر ثالث في إطار الحفريات التي تقوم بها سلطات الاحتلال "الإسرائيلي" في تلك المنطقة.
يوضح هلسة أن حمام الشفا يستخدم الآن بالإضافة إلى المرافق الموجودة في خان تنكز من قبل جامعة القدس للقيام ببعض الأنشطة الثقافية التعليمية التربوية على أمل أن يبقى نابضاً بالحياة ويستمر في ارتياداه الفلسطينيون والمقدسيون للحفاظ على طابعه العربي الإسلامي ومنع وصول يد البطش "الإسرائيلية" والتهويد "الإسرائيلي" إليه في سبيل حمايته وحماية كل الأماكن التاريخية الاثرية الدينية في داخل البلدة القديمة.
ملاذ للاسترخاء والاستجمام
يدخل الزائر إلى حمام الشفاء عبر سوق مسقوف يسمى سوق القطانين، الذي يعتبر امتداد للحقبة المملوكية، والذي كان ولا يزال مركزاً اقتصادياً للمدينة المقدسة، كما كان حمام الشفا مقصداً لتجار وزوار المدينة الذي يريدون الاسترخاء والاستجمام من عناء الطريق الطويل.
ورغم أنّ القدس في العصور المنصرمة كانت فقيرة بمصادر المياه، حيث كان يُنقل ويُجر الماء إليها من خارجها بعسرٍ ومشقّةٍ، إلا أنّها من أغنى مدن الأرض بأساطير الماء وحكايته العجيبة. تتواشج في هذا التراث العجائبي الجميل معتقداتٌ شعبيّةٌ مُوغلةٌ في القِدم، وقد تغنى في حمام الشفا أحد الشعراء الذي لم يتسنَ للقسطل التثبت من اسمه قائلاً:
دخلنا في القدس حمام لطفٍ وسرور وبهجة وصفاءِ
ماؤه مثل ماء زمزم طعماً وهو من تحت صخرة الله جائي
حاصلٌ منه للمريض شفاء فلهذا ملقَّبٌ بالشفاء
التهويد الإسرائيلي
كما باقي المقدسات والموقع الأثرية الإسلامية في المدينة المقدسة، يتعرض حمام الشفا للإهمال بهدف طمسه عن الحياة الفلسطينية العامة من قبل الاحتلال "الإسرائيلي" وهو ما
وأكد الأكاديمي والباحث في الشأن الإسرائيلي والمقدسي هلسة على أهمية حماية الهوية والارث الثقافي والحضاري والتاريخي العربي في مدينة القدس، وهذه مهمة تواجه الكثير من التحديات بحكم ارتباط إجراءات الترميم بموافقات الجهات صاحبة العلاقات "الإسرائيلية" كالبلدية وسلطة الاثار والجهات الرسمية التي غالباً ما تتعاطى مع طلبات ترميم هذه المواقع الأثرية بالإهمال واللامبالاة، وبالتالي تبقى هذه المواقع صاحبة الإرث التاريخي والحضاري الهامة في البلدة القديمة مهملة لا تحظى بالرعاية والاهتمام المطلوب بحكم أولاً عدم توفر الميزانيات المالية الكافية، وثانياً بحكم التعقيد التي تفرضه السلطات الإسرائيلية على إجراءات الترميم.
وأضاف الأكاديمي هلسة في مقابلته مع "القسطل" أن جامعة القدس وقعت اتفاق مع الأوقاف الإسلامية لتولي رعاية خان تنكز وحمام الشفاء وحمام العين الواقعان في سوق القطانين المجاور للمسجد الأقصى المبارك، كما حصلت الجامعة على تمويل من الاتحاد الأوروبي لترميم هذه المواقع، ولكن السلطات الإسرائيلية استمرت في المماطلة لفترة طويلة جداً حتى سمحت مؤخراً بالبدء بترميم حمام العين وخان تنكز بشكل أساسي، على أن يتبعه مستقبلاً ترميم حمام الشفا.
وأوضح أن جزء من التحديات التي تواجها هذه الأماكن الأثرية التاريخية في مدينة القدس هو ما يتعلق بالاستيطان والتغول الاستيطاني الذي يمتد ليطال كل ما هو عربي إسلامي في هذه المدينة، فمثلاً في أعلى حمام العين المجاور لحمام الشفاء أقيم كنيس يهودي للمتدينين، وهذا جزء من محاولات "إسرائيل" لطمس هذه المعالم لما تمثله من موروث يذكرها بأنه لم يكن لها تاريخ في هذه المنطقة، كما لم تكن جزء من هذا التاريخ المشرق في تلك المنطقة.
قائمة المصادر والمراجع:
مركز دراسات القدس، 16 يناير 2014.
شادي عوني نيروخ، إعادة إحياء سوق القطانين، (الخليل: جامعة بوليتنك فلسطين، 2014)، ص70.
رائف يوسف نجم وآخرون، كنوز القدس، (دمشق: الهيئة العامة السورية للكتاب، 2011)، ص197.
دائرة شؤون القدس، حمام الشفا، 2015.
http://www.jerusalemaffairs-plo.ps/wp/?p=3697
مقابلة هاتفية مع أ. محمد هلسة الأكاديمي والمتخصص في الشأن الإسرائيلي والمقدسي.
[1] مركز دراسات القدس، 16 يناير 2014.
[2] شادي عوني نيروخ، إعادة إحياء سوق القطانين، (الخليل: جامعة بوليتنك فلسطين، 2014)، ص70.
[3] رائف يوسف نجم وآخرون، كنوز القدس، (دمشق: الهيئة العامة السورية للكتاب، 2011)، ص197.
[4] دائرة شؤون القدس، حمام الشفا، 2015.
http://www.jerusalemaffairs-plo.ps/wp/?p=3697
[5] مركز دراسات القدس، 2014.
[6] المرجع السابق.
. . .