التسهيلات الاقتصادية.. أداة "إسرائيل" لضرب الهوية المقدسية

التسهيلات الاقتصادية.. أداة "إسرائيل" لضرب الهوية المقدسية
القدس المحتلة - القسطل: شكلت مدينة القدس موقعاً رئيساً في فكر الحركة الصهيونية منذ نشأتها، وذلك بسبب الرؤية التوراتية لها وأهمية هذه الرؤية في تعبئة وحشد الرأي العام اليهودي في الشتات وربطه "بأرض الميعاد" وتوجيهه للهجرة إلى فلسطين ليتحقق للصهيونية تطبيق شعارها بعودة "شعب بلا أرض لأرض بلا شعب". وقد شكلت هذه النظرة الخاصة لفلسطين عامة وللقدس بخاصة القاعدة التي انطلقت منها سياسات الاستيطان والتوسع الصهيونية. وعلى الرغم من أن الحركة الصهيونية هي حركة استعمارية علمانية لا علاقة لها بالدين اليهودي أو التوراة إلا أنها طبعت نفسها وبرامجها وأنشطتها بطابع تاريخي ديني يهودي تراثي أسطوري وذلك لإنجاح عملية الحشد والهجرة لإقامة الدولة اليهودية والعودة باليهود إلى الأرض المقدسة واتخاذ القدس 'أورشليم' عاصمة لهم وبناء هيكلهم المزعوم فيها.[1] سعت الحركة الصهيونية منذ أن تبلورت بنيتها التنظيمية بشكل واضح بعد مؤتمر بازل في سويسرا سنة 1897 إلى تطوير مفاهيم سياسية تعبوية في صفوف يهود العالم وبضخ جملة من الأفكار إلى أذهانهم وعقولهم وذلك في سعيٍ لتحويل مفهوم الفكرة الدينية لليهود من المستوى الديني العقائدي إلى المستوى القومي السياسي. ليس هذا فحسب بل عمد آباء ومفكرو الحركة الصهيونية إلى توظيف واستغلال بعض المفاهيم الدينية حول 'شعب الله المختار' و 'أرض الميعاد' لتوجيه العواطف والمشاعر اليهودية نحو فلسطين والقدس تحقيقاً للأهداف الصهيونية لإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين.[2] من هذه المكانة الرفيعة التي تحتلها مدينة القدس في عقل المحتل "الإسرائيلي"، بدأ الاحتلال سيطرته على المدينة باستخدام العديد من الأدوات والوسائل كالتوسع الاستيطاني ومصادرة الأراضي، وتسريب العقارات وهدم المباني ورفض منح ترخيص البناء وسحب هويات المقدسيين، وتهويد أسماء المواقع الفلسطينية، وبناء جدار الفصل، وضرب الحركة التجارية وغيرها من الوسائل، ولكنه اصطدم بحقيقة صمود المقدسي وتشبثه بحقوقه. وهو ما دعا الاحتلال لتغيير أساليبه في التعامل مع المقدسي. دائماً ما اصطدمت "إسرائيل" بالفعل الثوري المقدسي، بالرغم من التشديد الأمني والتضييق الاقتصادي والتوسع الاستيطاني، وقد علق وزير حكومة الاحتلال زئيف أليكن أن معالجة هذه الإشكالية الملحة تكمن في أنه كلما أصبحت الفجوات بين شرق وغرب القدس أقلّ، كلما أصبح ثمن الخسارة الذي سيدفعه سكان شرقيّ القدس نتيجة أي احتكاك أمنيّ أعلى بكثير، وبالتالي تنخفض إمكانيات تشكيل الخطر الأمنيّ من قبلهم.[3] أي أن الشعار الذي يقول "الحدّ من الفجوات" ترجمته الفعليّة على الأرض: تقييد المقدسيين بإنجازات ومكتسبات شخصيّة اجتماعيّاً واقتصاديّاً، وهذا ما يقود -حسب منطق الوزير الاسرائيلي- إلى تخفيض حدّة المواجهة مع الاحتلال في القدس. محاولات التهويد للمدينة المقدسة: منذ احتلال مدينة القدس عام 1967، بدأ المحتل الصهيوني عمليات التهويد المنظم، حيث أعلن حاييم موشي شابيره وزير الداخلية "الإسرائيلي" في 28/5/1967 ضم أحياء القدس الشرقية قسراً تحت شعار القدس الموحدة.[4] ومع إتمام المخطط الاحتلالي "الإسرائيلي" واستصدار القوانين الملزمة كقانون توحيد القدس وعاصمة "إسرائيل" الأبدية، شرعت الإدارة المذكورة بتنفيذ مشاريع إضفاء الشرعية "الإسرائيلية" على الأرض من خلال البرامج الاستيطانية التي سبقتها إجراءات مصادرة أرض عرب القدس. ومنذ الساعات الأولى للاحتلال بدأت السياسة "الإسرائيلية" والجرافات برسم المعالم لتهويد القدس، من أجل فرض الأمر الواقع وإيجاد أوضاع جيوسياسية يصعب على السياسي أو الجغرافي إعادة تقسيمها مرة أخرى، وشرع في وضع أساسات الأحياء اليهودية في القدس الشرقية لتقام عليها سلسلة من المستوطنات تحيط بالقدس من جميع الجهات، وإسكان مستوطنين فيها لإقامة واقع جغرافي وديمغرافي وإحداث خلخلة سكانية في القدس العربية، وبعد أن كان سكان القدس يشكلّون أغلبية في سنة 1967 م، أصبحوا بعد عمليات المصادرة وبعد إقامة المشاريع الاستيطانية وفتح الطرق والبناء ضمن الأحياء العربية يقيمون فقط على 20% من الأراضي.[5] فشل محاولات التهويد وبداية عصر التطبيع الاقتصادي: أيقن الاحتلال "الإسرائيلي" أن مخطط طرد السكن العرب وهدم منازلهم من مدينة القدس لن يجدي في السيطرة على القدس، وبدأت في وضع خطط اقتصادية واجتماعية لدمج المقدسيين في الجو "الإسرائيلي" العام من أجل تطوير وضعهم المعيشي، حتى تصبح المكتسبات المعيشية أهم من المواقف السياسية، وهو ما حذت حذوه مع السكان العرب في الداخل المحتل. لم يكن غائباً عن الاحتلال "الإسرائيلي" الاغراءات الاقتصادية للإجهاز على الواقع الفلسطيني في مدينة القدس، ففي 13 مايو/ أيار 2018، وفي مناسبة احتفال "إسرائيل" بمرور 51 عاماً على احتلالها شرق المدينة، أو ما تُسمّيه "يوم القدس"، أُعلِن عن القرار الحكوميّ الإسرائيليّ رقم 3790. يصادق القرار على خطّة بعنوان: "الخطّة الخمسية: تقليص الفجوات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والتطوير الاقتصاديّ لشرقيّ القدس، 2018-2023". وقد حددّت الخطّةُ ستّ قطاعات ستعمل فيها: التعليم والتعليم العالي، الاقتصاد والتجارة، التشغيل والرفاه، المواصلات، تحسين جودة الحياة والخدمات المُقدّمة للسكان، وتخطيط وتسجيل الأراضي. أما عن الهدف، فيقول القرار إنّ الخطّة نبعت من "الحاجة لتعزيز قدرة سكان شرق القدس [أي الفلسطينيّين] على الاندماج في المجتمع والاقتصاد "الإسرائيليّ"، وبذلك تعزيز حصانة العاصمة اقتصاديّاً واجتماعيّاً". الهدف إذاً واضح: "دمج" المقدسيّين بالاقتصاد "الإسرائيليّ" حتى تُربّط أياديهم ولا يستطيعون منه فكاكاً ويصبح خيار التعامل مع السّوق والمؤسسات "الإسرائيليّة" هو الوحيد والمُفضّل، وبالتالي تعميق وتثبيت السيطرة "الإسرائيليّة" لا على المدينة فحسب، بل على سكانها كذلك.[6] تعترف "إسرائيل" أنه بعد خمسة عقود بإهمال "إسرائيل" القدس الشرقية، بالرغم من ادعائها بسيادتها الكاملة والأبدية، إلا أن الواقع الاقتصادي والاجتماعي يشكل عبء كبير على دولة الاحتلال، ويشكل ذلك خطراً على أمنها، وعليه فقد قرر حكومة الاحتلال الموافقة على خطة مساعدة شاملة إلى القدس الشرقية من أجل تقليص الفجوات ودمج السكان العرب الفلسطينيون في المجتمع والاقتصاد "الإسرائيلي".[7] يبلغ عدد السكان الفلسطينيين في القدس 320000 نسمة (حوالي 37٪ من سكان المدينة). 98٪ منهم يعيشون في الأحياء الشرقية للمدينة. وبحسب معطيات مؤسسة التأمين الوطني، فقد بلغت نسبة الفقر بين السكان العرب 9.72%، وبحسب المكتب المركزي للإحصاء فقد وصلت نسبة مشاركة السكان العرب في المدينة عام 2016 في العمل 6.41%، ويعمل معظم السكان العرب في وظائف لا تتطلب تعليماً جامعياً، مثل العمل في البناء وغيرها من المهن وعادة ما تكون أجور هذه المهن منخفضة.[8] ووفقاً للمخطط "الإسرائيلي" الذي يمتد حتى عام 2023، فقد تقرر إنفاق 200 مليون شيكل لتنمية الاجتماعية والاقتصادية والحد من الفوارق الاجتماعية والاقتصادية في القدس. وقد اهتم المخطط أيضاً بتطوير البنية التحتية للنقل والتجارة والتوظيف، وبرامج أخرى لتشجيع التوظيف وتحسين نوعية التعليم.[9] يؤكد المخطط "الإسرائيلي" على أنه من أجل زيادة الإنتاجية في الاقتصاد، ودمج سكان شرق المدينة في دائرة التشغيل، وزيادة الدخل لكل أسرة في شرق المدينة ودخل بلدية القدس، تم تحديد الأهداف التالية: تقليص الفجوة في معدل عمالة النساء اللائي تتراوح أعمارهن بين 25 و64 سنة في القدس الشرقية بحيث يكون معدل توظيف النساء العربيات في القدس الشرقية بحلول عام 2023 75٪. ولتحقيق هذه الأهداف، ستعمل حكومة الاحتلال على تشكيل فريق فرعي للاقتصاد والعمالة برئاسة المدير العام لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية والخدمات الاجتماعية، وبمشاركة المدير العام للميزانية، والمدير العام لوزارة الاقتصاد والصناعة، والمدير العام لما يسمى بوزارة القدس والتراث، أو موظف في مكتبهم والمدير العام لبلدية القدس أو موظف في البلدية. وسيشمل الفريق أنشطة الحكومة والبلدية في مجالات الاقتصاد والعمالة والرعاية الاجتماعية.[10] أهداف وتفاصيل المخطط الإسرائيلي: تسعى حكومة الاحتلال من خلال الشق المتعلق بالتشغيل في الخطّة الخمسيّة إلى زيادة دخل العائلات المقدسيّة عبر المساعدة في العثور على عمل. ويتم ذلك من خلال: المساعدة في تعليم الباحث عن عمل اللغة العبريّة - هذا ضمن افتراض أن مجال العمل المتاح هو سوق العمل "الإسرائيليّ"، وثانياً توفير دورات تدريبيّة ومهنيّة لإكسابه بعض المهارات في المجال الذي يميل إليه، وثالثاً، التشبيك مع المُشغّلين "الإسرائيليين" لتعريف المقدسيين بإمكانيات العمل المتوافرة، سواء عن طريق عمل أيام توظيف مفتوحة، أو زيارات للمصانع والمؤسسات "الإسرائيلية". يستهدف هذا القطاع النساء بشكلٍ خاصّ. في "مركز ريان للتشغيل" مثلاً، والذي يقع على عاتقه تطبيق حصّة كبيرة من قطاع التشغيل في الخطّة الخمسيّة، يتضمن برنامج العمل هدف الوصول إلى 1500 شخص جديد سنوياً، بشرط أن يكون 70% منهم من النساء. هذا بالإضافة إلى مراكز أخرى تُقدّم منحاً وقروضاً لدعم النساء في فتح مشاريع اقتصاديّة.[11] يستهدف المخطط الاقتصادي "الإسرائيلي" تطوير الجوانب المعيشية للمقدسيين، انطلاقاً من النظرة الأمنية بعد ارتفاع حالات إلقاء الحجارة والزجاجات الحارقة والمواجهات التي تجري في مختلف بلدات القدس، مما أثّر، حسب الدراسات "الإسرائيليّة"، على شعور "الإسرائيلي" بالأمان خلال تجواله في عاصمته المفترضة. لم تكن سلطات الاحتلال بطبيعة الحال قد وفّرت جهداً لإخماد تلك المواجهات؛ اعتقال، حبس منزلي، قتل، هدم بيوت، إلخ. لكن هذا النوع من "الحلول" لم يكن كافياً.[12] اقترحت اللجنّة "الإسرائيلية" التي وضعت الخطة الخمسية أن تعمل الحكومة "الإسرائيليّة" على تحسين الظروف الاقتصاديّة والاجتماعيّة لأهالي القدس كوسيلة للتعامل مع "عدوانيتهم" المتصاعدة. افترضت هذه اللجنة أن إلقاء الحجارة ناجمٌ عن "الفقر"، وبالتالي فإنّك "إذا حسّنت من أوضاعهم الاجتماعيّة والاقتصاديّة، سيتوقفون عن إلقاء الحجارة"، دون أي ذكر للسياق السياسيّ: الاحتلال وممارساته. وبناءً على هذه التوصية، صدر في 29 يونيو/ حزيران 2014، القرار الحكومي رقم 1775، بعنوان: "الخطّة لتعزيز الأمن الشخصيّ والتطوير الاقتصاديّ الاجتماعيّ في القدس لصالح كلّ سكانها". خُصص لهذه الخطّة مبلغ 200 مليون شيكل بما يشمل قطاعات التعليم والتشغيل وتطوير بعض ملامح البنية التحتيّة، والخدمات البلديّة، إضافةً إلى 90 مليون شيكل لتعزيز نظام الرقابة البلديّة والشرطيّة، وتمتد فترة تطبيقها من 2014 إلى 2018. بعد ذلك، ظهرت ملامح العمل على هذه الخطّة: برنامج "روّاد" الذي يعمل على زيادة عدد الطلاب في الجامعات الإسرائيليّة، وفتح مراكز تشغيل وتدريب -منها مركز ريان المذكور أعلاه، وغيرها.[13] لاحقاً، وبعد "أخطاء" في تطبيق خطّة عام 2014 أُسست لجنة "إسرائيليّة" للتخطيط لخطّة جديدة وواسعة تمتد على عدّة سنوات، تعمل بفاعلية وعمق أكبر، وتستهدف ذات الأمر وبذات المنطق الأمنيّ السياسيّ. عام 2018، صدرت المصادقة على الخطّة الجديدة، أو ما نعرفه اليوم باسم "الخطّة الخمسيّة"، لتُكمل العمل على ما لم تنتهِ منه خطّة عام 2014. تنطلق الخطّتان من رغبةٍ أمنيّةٍ "إسرائيليّةٍ" تربط الفعل السياسيّ المقاوم بالوضع المعيشي. يفترض هذا المنطق أنّ من يعيش حياة جيدّة على الصعيد الاقتصاديّ؛ معاش ثابت، ووظيفة جيّدة، وعلى الصعيد الاجتماعيّ؛ تعليم جيّد، بيئة وبنية تحتية مناسبة، ومساعدة في حالات العنف والطلاق، لا "مصلحة" له، ولا "دافع" له للمشاركة في أي نشاطٍ سياسيّ، إذ أن هذا النشاط السياسي سيُكلّفه خسارة هذه المكتسبات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وبالتالي لن يُشكّل "خطراً أمنيّاً".[14] يحاول الاحتلال تنفيذ مخططه الاقتصادي لتعزيز دمج المقدسيين في المجتمع والاقتصاد "الإسرائيلي" حتى يتسنى له حماية أمنه وسيطرته على المدينة المقدسة وقاطنيها العرب، وبذلك تصبح القدس بحكم الواقع عاصمة أبدية لدولة الاحتلال، ولا يمكن لأي جهد فلسطيني في المستقبل تغيير هذا الواقع إن لم يواجه الفلسطيني هذه المخططات عبر مخططات مضادة اقتصادية ودبلوماسية وشعبية. المصادر والمراجع: [1] محمد عقل هلسة، القدس في الفكر التوراتي الصهيوني، المركز الفلسطيني للإعلام، 18/ديسمبر 2008. https://www.palinfo.com/5506 [2] المرجع السابق. [3] אפרים לביא, ששון חדד, מאיר אלרן، התוכנית הישראלית לצמצום פערים חברתיים וכלכליים במזרח ירושלים: משמעויות והמלצות، עדכן אסטרטגי | כרך 21 | גיליון 3 | אוקטובר 2018، 6. [4] ليث عرار، محاولات تهويد المدينة المقدسة، المركز الفلسطيني للإعلام، 11 أغسطس 2007. https://palinfo.com/50458 [5] المرجع السابق. [6] الدائرة العسكرية والأمنية لمنظمة التحرير الفلسطينية، الخطّة الخمسية.. ماذا تفعل «إسرائيل» في القدس؟، 20 يناير 2020. https://www.msad.ps/2020/01/52555.html [7] אפרים לביא, ששון חדד, מאיר אלרן، התוכנית הישראלית לצמצום פערים חברתיים וכלכליים במזרח ירושלים: משמעויות והמלצות، עדכן אסטרטגי | כרך 21 | גיליון 3 | אוקטובר 2018، 1-2. [8] المرجع السابق، 4-5. [9] المرجع السابق، 2. [10] משרד ראש הממשלה، צמצום פערים חברתיים כלכליים ופיתוח כלכלי במזרח ירושלים، מספר החלטה  3790، 13/05/2018. https://www.gov.il/he/departments/policies/dec3790_2018 [11] هنادي قواسمي، الخطّة الخمسية.. ماذا تفعل "إسرائيل" في القدس؟، موقع متراس، 15 يناير 2020. [12] الدائرة العسكرية والأمنية لمنظمة التحرير الفلسطينية، الخطّة الخمسية.. ماذا تفعل «إسرائيل» في القدس؟، 20 يناير 2020. https://www.msad.ps/2020/01/52555.html [13] المرجع السابق. [14] المرجع السابق.
. . .
رابط مختصر
مشاركة الخبر: