فرن أبو سنينة.. الخبز المقدسي في مواجهة المستوطنين
القدس المحتلة - القسطل: فرن أبو سنينة الذي يقع في قلب ما يسمى "حارة اليهود" في القدس المحتلة لا يمثل بالنسبة لعائلة أبو سنينة مكانا توارثت فيه خبرتها على امتداد 4 أجيال، وإنما ركن صمود في مكان جاوز عمره الـ 80 عاما ولا يزال شاهدا على كل محاولات التهويد والإغراء.
عقب الاحتلال الإسرائيلي لمدينة القدس عام 1967، تمت السيطرة على حارة الشرف، إذ تم تهجير سكانها وتغيير جميع معالمها، وأقيم حي سكني جديد للمستوطنين المتدينين أطلق عليه اسم "حارة اليهود"، لكن محاولات المحو والتغيير هذه اصطدمت بفرن أبو سنينة، والذي بقي شاهدا على التاريخ والوجود الفلسطيني رغم كل الانتهاكات الإسرائيلية؟
"لا أريد أن أعطيك بالشيقل، إن كنت تريد بالدينار أو الدولار أو الجنية الإسترليني فلك ذلك، وأي بنك في العالم تريده سأدفع لك من خلاله، ستعيش أنت وولد ولدك ملوك" هذه الكلمات لم تكن إلا محاولة من عدة محاولات إغراء للعائلة مقابل التخلي عن الفرن، لكن أبو عماد أبو سنينة الذي طرد محدّثه، أكد له أنه "لو أعطيتني كل مال إسرائيل لن تأخذ حبة تراب من المكان". بكل فخر يروي عماد عن هذه الحادثة التي يعتبرها فخر أورثه إياه جده ووالده، وبنظرات اعتزاز يردف قائلا "جاء لنجلي جندي إسرائيلي قبل 5 سنوات وعرض عليه مبلغ 40 مليون شيقل مقابل الفرن على أمل أن يغريه بالمال" وبذات الفخر والاعتداد بالنفس كان جواب الإبن.
يقع فرن أبو سنينة بجانب مخبز إسرائيلي، إلا أنك ومنذ دخولك للحارة ستميز المخبز المقدسي وتتعارف عليه، فمن بداية الطريق المؤدي له ستسحرك رائحة كعك القدس النفاثة وتجرك إلى عالم مقدسي تميزه جيداً، شكل الخبز الأبيض العربي وخبز القمح الذي وضع فوق الطرحة "هي لوح خشبي تتميز بها مدينة القدس يستخدم لنقل الكعك والخبز داخل البلدة القديمة" ينقلك إلى عمق الحضارة والتاريخ. ي شكل المخبز العربي القديم بالأقواس العربية التي تميزت بها مباني المدينة المقدسة ستشعرك بأنك بمكان معهود وتطمئنك أخيراً. مخبز كبير ينتهي آخره بأربعة درجات توصلك الى بيت النار؛ وهو المسمى الشعبي للمكان الذي يخبز به العجين، حينها ستفخر بأن هذا المكان حافظ على تاريخ وعراقة تمييز مدينة القدس وحاراتها القديمة في منتصف حارة هودت وأعيد هندستها لتظهر بما يغذي رواية المستعمرين. .
ولكسر هذه الشوكة المقدسية العالقة في حارة اليهود، حاول الاحتلال على مدار أكثر من 50 عاماً شراء المخبز وتحويله كباقي الحارة لـ"مكان إسرائيلي"، وبعد فشلهم بإقناع العائلة ببيعه، بدأت كل أشكال التضييق والتطفيش لأصحابه، ويصف عماد ابو سنينة بدايات المشاكل التي واجهت المخبز كانت مع والده وجده، وبذاكرة طفل يسرد "وضع البارودة على رأس أبي بعد أن وجدونا بالمحل وذلك بعد ما هجرونا من بيتنا الذي كان على مقربة من الفرن، قال لأبي إذا رجعت ورأيتك هنا سأقتلك، وهو ما اضطرنا لأن نذهب للمكوث في بيت جدي ولكن والدي عاد فوراً للعمل في المخبز".
توارثت هذه العائلة المصير ذاته، كتب عليها أن تتعرض للمضايقات وكافة أشكال وأساليب التهجير القسري وبعمر الثمانية عشر عاماً بدأ عماد أبو سنينة رحلة صموده ويحكي قصة عن تلك المرحلة "يوجد بجانب الفرن كنيس لصلاة اليهود وعندما كانوا ينتهوا من الصلاة يوم السبت كانوا جميعهم يأتون إلى الفرن محاولين إغلاقه، وهو ما اضطرني الى أن أضرب جنديا تعدى على المحل وأتعرض للحبس بعدها".
ولم تقف محاولات التضييق على عماد عند هذا الحد، إنما انتقلت لتطال أولاده بعد أعوام عديدة، إلا أن صموداً تجرعه منذ ولادته جعلته يورثه لأطفاله "في أحد الأيام كان هناك عدد من الطلاب اليهود يتجولون في المكان وخرج أصغر أبنائي بطرحة الكعك على رأسه لينقلها إلى السوق وأثناء ذلك حاول فتى يهودي الاعتداء على طفلي ليتفاخر أمام صديقته، وبعد مناوشات عديدة وكلمات نابية تفوه بها اليهودي اضطر ابني للدفاع عن نفسه وهو ما عرضه الى السجن وهو طفل، لم يعي ماذا يحدث ولكنه رغم ذلك لم يترك حقه ودافع عن نفسه".
و يردف عماد في مقابلة مع القسطل أنه ومنذ صغره اعتاد على مجابهة المستوطنين فكان يعمل على جمع عدد من أصدقاءه وأبناء عمه وهو ما كان يردع المستوطن عن التعدي يتعدى على المكان وخصوصاً أيام السبت التي كانت دائماً تحمل معها مشاحنات بسبب اصرار اليهود المتدينين على إغلاق كافة الأماكن بسبب عاداتهم الدينية، وبعد عدة شكاوى على فرن أبو سنينة توجهت شرطة الاحتلال للتحقيق بالأمر إلا أنهم صدوا أمام حنكة عماد ابو سنينة الذي واجههم "بأي قانون تأتي لتسكير المحل؟ هل هناك قانون يقضي بأن أغلق الفرن يوم السبت؟"
واضطر أبو سنينة على مدار 20 عاماً على دفع مبالغ طائلة سنوياً واتباع شروط أخرى كإغلاق المحل بالأعياد اليهودية وأيام السبت بدلاً من الجمعة للحصول على هذه الرخصة، لأن دونها لن يستطيع أن يمنع بطش المستوطنين اليهود من الاعتداءات المتكررة على المحل، موضحا "أنا عملت ببعض شروط الرخصة بعد كل المشاكل التي واجهتها بالثمانينات والسبعينات".
إلا أن ومنذ العام 2014 وبعد أحداث انتفاضة القدس توقف عماد أبو سنينة عن دفع الـ"كشير" وذلك لأن الوضع تغير كلياً على أثر الاحداث التي حصلت، وبات بطش المستوطنين مستمر ولا يتوقف تحت أي طائلة، وهو ما يخبر عنه بالقول " كانوا يحذرون السياح القادمين للمكان بأن هذا المكان لعربي لا تشتروا منه، وفي بعض الأحيان ثانية يقولون هذا عربي ابعدوا عنه، وهو ما تسبب بتراجع العمل بشكل كبير جداً".
وما زاد الطين بلة هو انتشار فيروس الكورونا ومنع السائحين من دخول البلاد، وهو ما أدى إلى أن يصبح العمل داخل الفرن "بمخسر" بحسب توضيح أبو سنينة، مضيفا " أنا أشتغل بمخسر، كل أفران القدس جاءها دعم ما عدا فرني وفرن عربي آخر ممنوع يوصل لنا أي دعم، حتى أولادي اضطروا للحصول على عمل آخر حتى يوفروا مصروف يومهم، أنا صاحب الفرن صرت آخذ مصروف كمصروف طفل صغير"، إلا أن نظرة تحدٍ باتت معهودة عادت إلى وجه فاستطرد قائلا "مع هيك ما بنسكر الفرن، ولا ساعة، ما بنخليهم يفكروا إنه بيوم ممكن يتسكر".
يعتمد الفرن على زبائن معينين، وهم السياح وأبناء البلدة القديمة في القدس ومقدسيين من أماكن مختلفة يأتون خصيصاً لشراء المخبوزات من المكان، ولتضييق الخناق على الفرن المستوطنون طرقاً مختلفة لمنع وصول المقدسيين إليه، وبعد تنهيدة تحمل الكثير من التعب قال أبو سنينة "في أيام رمضان كان يقف جنديان أول الحارة عند باب السلسلة يمنعان العرب من دخول الحارة لشراء الخبز من الفرن، ، صا وبعد تعرض أبناء البلدة القديمة للاعتداءات من قبل المستوطنين، باتت الأمهات تخشى من إرسال أبنائها للفرن".
"أنا موصي ولادي إذا اقترب مستوطن بده يأذي من باب المحل كسروه، حتى لو بدي أنطخ ما برميها واطية، لأنك إذا تنازلت وأظهرت خوفك راح يلمسوك، على الذهاب والإياب سيضحكون عليك ويهددوك، مثل ما قالوها دق الحديد وهو حامي" هي خلاصة تجارب عدة عاشها عماد في المكان ووصية يتلوها بها لأبنائه من بعدهم، مؤكداً على أن الصمود والرباط في المكان نابع من إيمان وتربية مبادئ لا تسمح أن يكون هذا المكان إلا مقدسي فلسطيني.
. . .