من مقهى الباسطي بالقدس إلى مقهى النوفرة بدمشق.. حكاية تاريخٍ متصل
القدس المحتلة - القسطل: عليك أن تغوص داخل البلدات القديمة، وتدخل تفرعات الطرق بين الحجارة والأزقة، وإن حددتَ وجهتك -المقهى- فستصل بعد عناء إلى مبتغاك، وإن لم تُحدده فربما لن تصل أبدًا، فالمقاهي في بلاد الشام، لم تكن لعابري السبيل فقط، بل أماكن ترصدها وتقصدها فتُلبيك، وتعود بدايات نشوء المقاهي في القدس إلى القرن السادس عشر بعد تطور الحركة العمرانية وتعتبر دمشق المؤثِر على الطابع والأنشطة المقامة في هذه المقاهي، إذ كانت مزارًا ثقافيًا وأدبيًا وتعتبر المقاهي أولى التجمعات التي أُدخل لها المذياع، أي أول مكان نقل الأخبار.
مقهى الباسطي والنوفرة تلاقيا بالوصف، وانفصلا بالمكان
عندما تسير من باب العامود ستمر في شارع الواد وصولًا لباب المغاربة، وفي هذا المسير هناك نقطة تلاقٍ بين شارع الواد وشارع يُسمى بطريق المجاهدين أو طريق الآلام، ستجد على جانبك مقهى الباسطي أو كما اصبح حاليًا مطعم الباسطي في البلدة القديمة بالقدس ولهذه الطرق أهمية تاريخية استراتيجية قديمة، يقول الأستاذ في التاريخ والآثار إيهاب الجلاد المقدسي لـ"لقسطل"، "هذه الطرق عمرها أكثر من 1800 أي منذ زمن الامبراطور هدريان، والتقائها في نقطة واحدة يعني أهمية الأماكن عليها، لموقعها الاستراتيجي للمسلمين والمسيحيين".
ويضيف الجلاد لـ"القسطل" الحجاج المسلمون والمسيحيون كانوا يمرون في هذا الطريق"الآلام"، بالتالي هذا ما يجعل رواد المقهى من الحجاج تحديدًا"
ولكن ليس مقهى الباسطي الوحيد الذي نحتاج لهذه الخارطة الطويلة للوصول له، وإنما يشترك معه مقهى النوفرة في دمشق، بهذه التفاصيل الصعبة على الرغم من انفصال المكان، فـ للوصول له تحتاج إلى اختراق سوق الحميدية بالشام القديمة مشيًا، لتكون شاهدأ على كمٍ من المعروضات والمحلات العريقة لتجد المقهى في آخر السوق، ويعود هذا المقهى إلى ما يزيد عن 500 عام حسب الباحث التاريخي غسان كلاس الدمشقي، إذ يقول كلاس في أحد المقابلات "يُطل المقهى على الجامع الأموي وعلى أحد الأبواب الرئيسية للمسجد" ليصبح الباسطي والنوفرة أحد أماكن الاستراحات الدينية قبل الوصول إلى المساجد الأقصى والأموي.
يقول الجلاد لـ"القسطل "القدس كانت تتبع لدمشق، والتاريخ يقول هناك مُؤثر ومُتأثر، ولا شك أن القدس هي المُتأثرة، فهذه المقاهي هنا نمطها دمشقي بحث، نحن من أخذنا منهم واكتسبنا"
عادة الحكواتي، فقدها الباسطي، وأعادها النوفرة
فقد مقهى الباسطي منذ زمن أنشطته التي عهدها رواده، خاصة بعد تحوله لمطعم ولكنه حافظ على بعض الذكريات عن طريق الصور المعلقة على جدرانه، كما أن مكانه واسمه وحجارته شاهدة على هذا الماضي للمقهى، ولا شك أن عادة الحكواتي كانت إحدى أهم الأنشطة والفعاليات التي عهدها المقهى، وهي ذاتها التي نراها في المقاهي الدمشقية بالمسلسلات القديمة، الحكواتي ومن يتجمع حوله من الرجال، لسرد حكايات تاريخية مثل الزير سالم وغيرها.
يقول الجلاد لـ"القسطل "عادة الحكواتي كانت موجودة منذ القرن الماضي واستمرت إلى أوائل العصر الحالي، إلا أنها توقفت"
ولكن عادة الحكواتي لم تتوقف في النوفرة، حتى بعد تطور التكنولوجيا ونشوء تجممعات كبرى افتراضية بعيدًا عن المقاهي وبقيت مستمرة حتى هذه الأيام، ولكنها تنشط في الأيام الرمضانية تحديدًا، وتتنوع بين قصص بطولة عربية وبطولات شعبية قديمة يرويها الحكواتي بعد أن يترّبع على مجلسه فيما يتجمع حوله المستمعون بإصغاء تام، فيقول كلاس "تظهر علامات الانبهار والاندهاش على المستمعين".
إلا أن مقهى الباسطي ما زال محافظًا على تاريخه حتى إن دخلتَه تجد صور للقدس ومعالمها في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، وكأن المقهى، تحول لمطعم ومتحف في ذات الوقت.
سوريا الأم والارتباط ليس محض صدفة
الارتباط التاريخي بين القدس ودمشق الذي خلق هذا التشابه في العمران والعادات يعود إلى سهولة التنقل التي كانت عليها الطرق قبل الحروب المتوالية على فلسطين، فالفلسطيني والسوري كانت تجمعهم علاقات المصاهرة والتناسل نتيجة العلاقة التي بُنيت على القرب المكاني وبالتالي المعنوي.
يقول الجلاد لـ"القسطل" "في القدس أسماء عائلات كبيرة سورية، مثل الشامي والحلبي، وهذا ما ساعد في نقل حضارة كبرى من دمشق إلى القدس وغيرها من المدن الفلسطينية، إضافة إلى الظروف التاريخية والسياسية المتشابهة التي عايشتها سوريا وفلسطين".
. . .