القسطل.. "بوابة القدس" التي سقطت لتكون أولى ضحايا النكبة
القدس المحتلة - القسطل: تعدّ القسطل أول بلدة فلسطينية عربية تستهدفها القوات الصهيونية وتسقط بيدها عام 1948، وهي تقع على جبل إستراتيجي غربي مدينة القدس المحتلة.
صُنفت في العهد العثماني كمزرعة بسبب صغر مساحتها البالغة نحو 1400 دونم، وبلغ عدد سكانها عشية النكبة قرابة 100 نسمة.
هاجمتها العصابات الصهيونية في الثاني من نيسان 1948، حيث سعت للسيطرة عليها وعلى قلعتها الأثرية بحكم موقعها الذي منحها لقب "بوابة القدس" والمرتفع 790 مترًا عن سطح البحر.
بنى الرومانيون قلعة القسطل واستخدمها الصليبيون وقت احتلالهم القدس، ثم تمركزت فيها الجيوش الإسلامية بعد تحرير المدينة بقيادة صلاح الدين الأيوبي.
وخلال النكبة، هاجمت العصابات الصهيونية القسطل أولًا لتأمين المؤن العسكرية من ميناء يافا حتى القدس، وطردت سكانها واحتلت القلعة، لكن الثوار الفلسطينيين بقيادة عبد القادر الحسيني هبّوا إلى القسطل لاستردادها بمساعدة أهالي القرى المجاورة في ما عُرفت بـ”الفزعة”.
كان عدد الثوار لا يتجاوز خمسين ثائرًا بعتاد بسيط، فتوجه الحسيني إلى الجيوش العربية وجامعة الدول العربية لطلب المساعدة، لكنه قوبل بالتأجيل والرفض، فأكمل محاولة استرداد القسطل والتي استمرت منذ السادس حتى الثامن من نيسان، واستُشهد الحسيني على أرضها إلى جانب نحو ثلاثين ثائرًا.
حوّل الاحتلال جزءًا من أراضي القسطل إلى محمية طبيعية وحديقة وطنية، ونصب على قلعتها شواهد تخليدية لقتلى الاحتلال في المعركة، وبنى على الجزء الآخر مستوطنة باسم "كاستل" عام 1949.
القسطل كانت بمثابة مفتاح القدس من الناحية الغربية المطلة على الساحل إلى البحر، ومن يسيطر عليها، فقد سيطر على كافة السهل الغربي.
اعتبر الصهاينة أنّ موقعة القسطل هي نقطة التحول من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم، وذلك بسبب موقعها الإستراتيجي، لذلك كانت أول بلدة فلسطينية عربية تستهدفها القوات الصهيونية وتسقط بيدها.
لكن .. ما تفاصيل الواقعة ؟ وكيف سقطت القسطل؟
كان الصهاينة يستعدون خلال الأسابيع القليلة التي سبقت انتهاء الانتداب البريطاني في منتصف أيار عام 1948 للقيام بعمليات عسكرية واسعة غرضها الاستيلاء على أكبر مساحة من الأرض التي تنسحب منها القوات البريطانية وضمها إلى دولتهم عند قيامها.
وضعوا خططًا أطلقوا عليها أسماء رمزية، وكان من بينها عملية تهدف إلى فتح طريق القدس – تل أبيب وفك الحصار عن يهود القدس، وأطلقوا عليها الاسم الرمزي “نحشون” وخصصوا لها 5 آلاف رجل من قوات “الهاغاناه” و”البالماخ” و”الأرغون” و”شتيرن”، مزودين بأسلحة حديثة اشتروها من تشيكوسلوفاكيا، ونقلوها إلى فلسطين بحراً وجواً، إلى جانب الدبابات والسيارات المصفحة التي حصلوا عليها من سلطات الانتداب البريطاني في مناسبات متعددة.
سافر عبد القادر الحسيني، قائد جيش الجهاد المقدس، إلى دمشق في أواخر آذار 1948 للاتصال باللجنة العسكرية التابعة لجامعة الدول العربية، والحصول على أسلحة ومعدات لازمة لقواته على ضوء المعلومات التي توافرت لديه عن قرب قيام اليهود بهجوم كبير لاحتلال القدس والسيطرة عليها.
وتسلم القيادة في غيابه نائبه كامل عريقات الذي قام إثر معركة الدهيشة (قرب بيت لحم) بنقل بعض قوات الجهاد المقدس إلى جبال القدس؛ لتدعم قوات المجاهدين التي كانت تتصدى للقوافل الصهيونية في منطقة باب الواد والقرى الواقعة على جانبي طريق القدس– تل أبيب.
وصلت إلى قيادة الجهاد المقدس معلومات تفيد بأن اليهود قرروا تقديم الموعد المحدد لتنفيذ هجومهم إلى الثاني من نيسان بدلاً من السادس منه، لذا عقد عريقات اجتماعاً طارئاً مع الشيخ حسن سلامة، قائد قوات الجهاد المقدس في قطاع يافا، ووضع خطة مجابهة هذا الهجوم الصهيوني، وحددا مهمة القوات في كل قطاع من القطاعين الذين يتوليان أمرهما.
عقد عريقات في الأول من نيسان اجتماعًا عسكرياً في أحد مواقع جبهة القدس وحضره قادة المجاهدين في هذا القطاع، وهم إبراهيم أبو دية، ورشيد عريقات، وعبد الحليم الجيلاني، وبهجت أبو غربية، وخليل منون، وفوزي القطب وغيرهم، واتخذ المجتمعون قرارات حشدوا على ضوئها قوات جيش الجهاد المقدس في المنطقة وعززوها بشباب القرى المسلحين ووزعوهم ليلاً بسرعة فائقة على مراكز باب الواد وبيت محسير وساريس والقسطل.
لم تغفل القيادة عن منطقة بيت لحم، إذ قد يحاول اليهود الوصول إلى القدس عن طريق عرنوف -كفار عصيون – بيت لحم.
أما في قطاع يافا واللد والرملة فقد حشد حسن سلامة قسماً كبيرًا من قوات المجاهدين العاملين بإمرته في منطقة دير محيسن (قضاء الرملة) استعداداً لمقاومة الهجوم الصهيوني المنتظر.
بدأ الصهاينة تنفيذ خطة “نحشون” ظهر اليوم الثاني من نيسان فاتجه قسم من قواتهم إلى منطقة دير محيسن، والقسم الآخر إلى ممر باب الواد لاقتحامه والاستيلاء على القسطل، فتصدى سلامة مع قوات الجهاد المقدس في دير محيسن للقوات الصهيونية وتمكن، بعد معركة عنيفة، من إحباط هجومها في تلك المنطقة.
تأهبت قواته للسير نحو باب الواد لنجدة إخوانهم هناك، ولكن وصول تعزيزات صهيونية إلى ميدان المعركة في دير محيسن حال دون ذلك، فاضطرت القوات إلى خوض معركة جديدة مع الصهاينة استمرت حتى منتصف الليل وانتهت بانتصار المجاهدين.
أما القسم الثاني من القوات الصهيونية الذي اتجه إلى باب الواد، وهو القسم الأكبر من قوات عملية “نحشون”، فقد اشتبك معه المجاهدون في معركة عنيفة دامت ساعتين ونصف الساعة. واستطاع الصهيونيون نتيجة تفوقهم الساحق في العدد والعدة اقتحام ممر باب الواد ومهاجمة القرى العربية في المنطقة، وتقدموه في المساء إلى مشارف قرية القسطل وقاموا عند منتصف الليل بمهاجمتها فتصدت لهم حامية القرية التي لا يزيد عدد أفرادها على خمسين مقاتلاً من أبنائها، ودافع هؤلاء عن قريتهم بضراوة إلى الفجر حتى نفدت ذخيرتهم، فتمكن الصهاينة من احتلالها وبدأوا على الفور عملية تحصين للتمسك بها لأنها مفتاح طريق القدس – تل أبيب وموقع السيطرة عليه.
كانت القسطل أول قرية عربية يحتلها اليهود عام 1948، وسقطت بعدها دير محيسن وخلدة فهزت الحادثة الشعب العربي الفلسطيني هزاً عنيفاً وانطلق المئات من شباب القدس وقراها ورجال العشائر يطالبون قيادات جيش الجهاد المقدس في القطاعات الأخرى بإرسالهم إلى جبهة القسطل.
تولت قيادة جيش الجهاد الإعداد لهجوم مضاد سريع فحشدت القوات من مختلف القطاعات في منطقة القدس، وتقدمت هذه القوات بقيادة عريقات لبيت صفافا إلى أن وصلت إلى عين كارم وانضم إليها شبابها بقيادة خليل منون، كما انضم عدد من شباب القرى المجاورة المسلحين.
وتابع الجميع التقدم أثناء الليل باتجاه القسطل ووصلوا إلى موقع يبعد عنها نحو كيلومترين مع الإشراقة الأولى لصباح يوم الرابع من نيسان، وتم حشد قوة من المجاهدين المتمرسين حول محاجر (الياشار) التي تبعد عن القسطل حوالي كيلومترين، وكان اليهود قد اتخذوا منها مراكز أمامية.
بدأ المجاهدون يقتحمونها فجر الرابع من نيسان فاحتلوها ثم تقدمت قواتهم بقيادة عريقات تحت وابل من نيران العدو الشديدة، وقاوم اليهود الهجوم العربي بشدة ودام الاشتباك بين المجاهدين ومراكز اليهود الأمامية المحصنة إلى أن حل الظلام فاضطر اليهود إلى إجلاء عدد من هذه المراكز أمام ضغط المجاهدين والتراجع نحو القرية، وغدا المهاجمون العرب يحيطون بالقسطل ويحاصرون اليهود فيما يتبادلون معهم نيراناً متقطعة طوال الليل.
استمر وصول التعزيزات العربية إلى جبهة القسطل طوال اليوم الخامس من نيسان، فوصل عبد الله العمري على رأس قوة من أبناء بيت صفافا والقرى المجاورة، ووصل الشيخ هارون بن جازي مع قوة من عشيرة الحويطات، وجاء عدد من الشباب الأردني المتطوعين، واشتد ساعد المقاتلين العرب بوصول هؤلاء وأجروا توزيعهم على المواقع المختلفة بسرعة.
شن المجاهدون هجومهم العام على القرية فانطلقت مجموعات منهم بقيادة الحاج محمود درويش وصبحي أبو جبارة إلى الجهة الشمالية منها حيث مواقع اليهود الخلفية، ودار قتال عنيف حتى ساعات الليل الأخيرة.
تمكن المجاهدون بعد مقاومة عنيدة من دفع اليهود إلى داخل القرية وأصبحوا هم على بعد نحو 200م من وسطها، واستمر اليهود في إطلاق النار من بعض مواقعهم طوال الليل، لكن العرب لم يردوا عليهم رغبة منهم في توفير الذخيرة، وقضى المجاهدون ليلتهم في حالة تيقظ قصوى.
شدد المجاهدون طوق الحصار الذي بدأ مع بداية ليلة السادس من نيسان، وواصلوا الإطباق على القرية بمعنويات عالية رغم نيران مدفعية الصهاينة الشديدة. وفي الساعة 2.30 من صباح السادس من نيسان أصيب القائد عريقات بجراح فاضطربت صفوف المجاهدين، في حين اشتدت غزارة نيران الأعداء، واستماتوا للاحتفاظ بالقسطل بأي ثمن. وأخذت ذخيرة المجاهدين في هذه الأثناء تقل شيئاً فشيئاً.
حمل إبراهيم أبو دية عريقات على ظهره إلى قرية صوبا، بعيداً عن ميدان المعركة، ثم عاد إلى الساحة فجمع شمل المجاهدين وأنهى الفوضى التي بدأت تدب في صفوفهم، وبث في نفوسهم الحماسة، وحثهم على متابعة القتال وقادهم في هجوم جديد على القرية يعاونه عبد الحليم الجيلاني.
ووصلت في الصباح نجدة قرية من المجاهدين أرسلها بهجت أبو غربية من القدس التي كان يتولى قيادة حاميتها فاشتد ساعد العرب وثبتوا في مواقعهم المحيطة بالقرية من نواحيها الشرقية والشمالية والجنوبية على الرغم من الهجوم المضاد الذي شنه الصهاينة، واستعملوا فيه المدفعية والطائرات واستمر ساعات طويلة.
وصلت النجدات إلى اليهود الذين وسعوا نطاق عملياتهم إلى بعض القرى العربية المجاورة ليحولوا بين أهلها ونجدة إخوانهم في القسطل، واستطاعوا إحباط محاولات المجاهدين لاقتحام القرية ومال الموقف إلى صالحهم، ولكن المجاهدين صمدوا رغم قلّة الذخيرة، واستطاع أبو دية مع عدد من الرجال اختراق أحد مواقع العدو ونسف بعض البيوت التي تحصنت قواتهم فيها والعودة بسلام.
وصل عبد القادر الحسيني من دمشق إلى القدس صباح اليوم السابع من نيسان، وتوجه بعد ظهر اليوم نفسه إلى القسطل فتولى أمور القتال وأمسك بزمام الموقف وأعاد تنظيم قوات المجاهدين المرابطة هناك على النحو التالي:
1) على الميمنة في الجهة الشرقية من القسطل مجموعة من المقاتلين بقيادة حافظ بركات.
2) على الميسرة في الجهة الغربية من القسطل – مقاتلو البدو بقيادة الشيخ هارون بن جازي.
3) في القلب في الجهة الجنوبية من القسطل – فصليتان بقيادة ابراهيم أبو دية.
4) في موقع القيادة كل من عبد القادر الحسيني وعبد الله العمري وعلي الموسوس.
رابطت مجموعة صغيرة من رجال جيش الجهاد المقدس بقيادة صبحي أبو جبارة في الجهة المقابلة، ورابطت مجموعة أخرى من متطوعي القدس ورام الله بقيادة الشيخ عبد الفتاح المزرعاوي في قالونيا؛ لتسند نيرانها قوات المجاهدين في هجومها على القسطل.
بدأ الهجوم العربي على القسطل وفق هذا الترتيب في الساعة 23:00 من يوم 7/4/1948، وتمكنت قوات القلب والميسرة من اكتساح مواقع العدو واستحكاماته الأمامية، واتصلت قوات الفريقين وكادت تدخل القرية، ولكن تقدم القوات من الناحية الشرقية كان صعباً إذ نفدت ذخيرة كثير من المجاهدين، وأصيب أبو دية مع 16 من رجاله بجراح مختلفة، فأخذ المجاهدون يتراجعون أمام كثافة نيران العدو.
هنا، اندفع عبد القادر الحسيني لينقذ الموقف، وأسرع خلفه عدد من رفاقه، اقتحموا القرية تحت وابل من نيران اليهود واستمر القتال طوال الليل دون أن يتضح الموقف.
ولما طلع فجر اليوم الثامن من نيسان أعلنت القيادة في ساحة القتال أن عبد القادر الحسيني وصحبه مطوقون في القرية، فأسرعت النجدات من القدس والمدن والقرى المجاورة باتجاه القسطل، وكان بينها فريق من حراس الحرم الشريف بقيادة عبد المجيد المدني الحجازي، وفريق من شباب القدس بقيادة بهجت أبو غربية ومحمد عادل النجار، ومجموعة من جيش الإنقاذ بقيادة جمال رشيد (العراقي)، وأخرى من الخليل بقيادة عبد الحميد الشلف، وثلة من رجال قرى الوادي بقيادة رشيد عريقات.
ظل الموقف غامضًا صباح ذاك اليوم، في حين كانت النجدات تصل تباعاً إلى ساحة المعركة. واستمر تبادل إطلاق النار بين الفريقين، ولكن المجاهدين كانوا يفتقرون إلى التنظيم، وتنقصهم القيادة الحكيمة فجاءهم رشيد عريقات وسعى إلى تنظيمهم، وطلب تركيز نيران الأسلحة المتبقية جميعها على القرية لاقتحامها، ولم يكن مع المجاهدين آنذاك سوى مدفع هاون من عيار بوصتين وعدد من رشاشات “برن” و”لويس”.
وبدأ الاقتحام في الساعة 11:00 وانتهى في الساعة 14:00 بدخول القرية وتحريرها. وقد فر اليهود باتجاه طريق القدس – يافا في الجهة الشمالية حيث ركبوا سياراتهم المصفحة وغادروا منطقة القسطل.
وحوالي الساعة 14:30 وجد المجاهدون القائد عبد القادر الحسيني شهيداً في أحد بيوت القسطل، وحاول قادتهم ألا يشغلهم ذلك عن استثمار النصر فطلبوا منهم متابعة القتال ومطاردة الأعداء، ولكن استشهاد عبد القادر الحسيني ترك في نفوس المجاهدين وقعاً أليماً فساد صفوفهم الارتباك، وفقد القادة سيطرتهم على الأفراد، وأخذت النجدات تغادر القسطل فلم يبق في القرية سوى رشيد عريقات وعبد الحليم الجيلاني وقواتهما.
بعثت رسائل سريعة إلى القرى المجاورة طلب فيها إرسال المناضلين للمرابطة في القرية والمحافظة عليها، ولكن الاستجابة كانت محدودة إذ شُغل الناس باستشهاد عبد القادر الحسيني.
وأخيراً غادر من بقي في القسطل مواقعهم في القرية، وعاد رشيد عريقات في الساعة الثانية من مساء اليوم الثامن من نيسان إلى المنطقة الشرقية من القدس حيث موقعه الأصلي، وبقي الجيلاني إلى وقت متأخر من الليلة التي تلتها، ثم أخلى القسطل مع من معه من المجاهدين فعاد اليهود واحتلوها ثانية في التاسع من نيسان وتمسكوا بها.