الشعب الفلسطيني يرسم البوصلة والوجهة الحقيقية للأمة
نعم هذا الشعار صحيح، ورسم البوصلة والوجهة الحقيقية للأمة كانت دوماً تأتي من مدينة القدس، مدينة القدس التي تدور فيها حرباً حقيقية على السيادة عليها ما بين المقدسيين المجردين من كل وسائل القوة سوى إرادتهم ومعنوياتهم وقدرتهم العالية على الصمود والمواجهة لمشاريع ومخططات الاحتلال المستهدفة اقتلاعهم وتشريدهم وطردهم وتهويد مدينتهم والسيطرة على مقدساتهم، ونفي كل أشكال وتعبيرات وجودهم الوطنية السياسية، الثقافية، الاقتصادية، الاجتماعية، الفكرية والمؤسساتية.
المقدسيون اختبرهم المحتل في أكثر من معركة وهبة شعبية، وفي كل “بروفا” وهبة شعبية يراكم المقدسيون عوامل الصمود والمقاومة، ويصبحون أكثر بأسًا وجرأة. فهبة الشهيد الفتى أبو خضير الذي خُطف وحُرق حياً على يد مستوطنين متطرفين، حدثت في تموز عام 2014، وتبعتها هبة شعبية في تشرين أول عام 2015 بدأها الشهيد مهند الحلبي في البلدة القديمة من القدس ومن ثم توالت الهبات الشعبية في القدس، لتكن هبة البوابات الإلكترونية خلال تموز عام 2017 هبّة أسقطت مخططات الاحتلال وبعض المنهارين العرب بنصب بوابات إلكترونية على بوابات المسجد الأقصى، ومن بعد ذلك كانت هبة مصلى باب الرحمة في شباط 2019.
واليوم مع بداية شهر رمضان وفي ظل المتغيرات والتطورات التي حصلت اعتقد المحتل أن الفرصة مواتية لكي يجهز على المدينة ويحتفل بنصره على المقدسيين بتهويد المدينة وجعلها عاصمة ليس لدولته، بل لكل يهود العالم، فالساحة الفلسطينية منقسمة على ذاتها ومتشظية، قيادات سياسية منفصلة عن الواقع، وتمارس السياسة على أساس الانتظارية ورهن حقوق الشعب الفلسطيني لمتغيرات في الحكومات الإسرائيلية والإدارات الأمريكية، وكذلك كان السقوط المدوي للنظام الرسمي العربي المتعفن، الذي حدثت في داخله تغيرات عميقة وبنيوية، أفضت ليس إلى تغيير في دوره ووظيفته، بل إلى انتقاله ليس فقط للهرولة التطبيعية مع دولة الاحتلال وإلغاء قرارات المقاطعة العربية وإقامة العلاقات الدبلوماسية والتجارية والاقتصادية معه، بل ذهب هذا النظام في سفوره ووقاحته إلى ما هو أبعد من ذلك بنسج تحالفات إستراتيجية أمنية وعسكرية مع دولة الاحتلال.
وفي تغيير جوهر الصراع وأسسه من صراع عربي- إسرائيلي جوهره القضية الفلسطينية إلى صراع إسلامي- إسلامي مذهبي (سني- شيعي)، واعتبار العدو المتخيل والمفترض إيران، هي عدوة الأمة العربية والتي تهدد أمنها واستقرارها ووجودها، بدل دولة الاحتلال الصهيوني التي تحتل الأرض الفلسطينية والعربية وتنهب خيراتها ومقدراتها وتمنع تطورها وتقدمها.
وفي الجزء المتعلق في المؤامرة على القدس، كان البعض يريد أن ينقل الوصاية الأردنية على المقدسات الإسلامية والمسيحية إلى أكثر من دولة عربية وإسلامية بالإضافة إلى دولة الاحتلال، وفيما يخص المسجد الأقصى المعرف بمساحاته البالغة 144 دونماً، كمسجد إسلامي خالص بقبابه ومصاطبه وساحاته، وجدنا المشيخة الميكروسكوبية الإماراتية، تخترع لنا ما يسمى بالديانة " الإبراهيمية"، مشتقة من اتفاقيات "ابراهام" التطبيعية التي وقعتها مع الاحتلال، كي تفتح الباب أمام حق لليهود في هذا المسجد. وكان بند السماح بالوصول بحرية إلى كل الأماكن المقدسة، وفي ما يسمى بـ”صفقة القرن” ذكر اسم “جبل الهيكل”، والصلاة الإبراهيمية المخترعة، طقوس تؤدي على غرار الصلوات التلمودية والتوراتية بهز الرأس وركعتين من قبل مشايخ ومطارنه وحاخامات يهود.
يضاف لذلك ما وفرته الإدارة الأمريكية المتصهينة السابقة من مكاسب ومنجزات لدولة الإحتلال فيما عرف بصفقة القرن الأمريكية، حيث تم نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب والاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال وشرعنة عملية ضم الضفة والاستيطان.
لذلك اعتقدت دولة الاحتلال وحكومتها وفي ظل الأزمة السياسة التي تعيشها، بعد فشل نتنياهو المهدد بالإدانة في المحاكم الصهيونية بالتهم الثلاث المنظورة ضده أمام القضاء الصهيوني بالرشوة وسوء الائتمان وخيانة الأمانة، وبالتالي الإطاحة بمستقبليه السياسي والشخصي ودخول السجن لعدة سنوات، بأنه لا بد من التصعيد في مدينة القدس لحسم موضوعها والسيادة عليها، وبما يرفع من أسهمه عند جماعة "الصهيونية الدينية" بن غفير وسموتريتش، وتطويعهم للقبول بتشكيله للحكومة بدعم من القائمة العربية الموحدة - منصور عباس، وبأن الظروف مواتية لفرض السيادة الإسرائيلية الكاملة على القدس، تيمناً بشعار الرئيس الأمريكي السابق المتصهين ترامب بأن القدس أزحيت عن الطاولة، وبأن المقدسيين باتوا لقمة صائغة نتيجة الحرب المستمرة التي تشن عليهم في كل مناحي وشؤون حياتهم.
ومن بوابة باب العامود الشهيرة اختارت حكومة الاحتلال وأجهزتها الأمنية التصعيد، تلك البوابة التي غيروا تسمية ساحتها من ساحة باب العامود إلى ساحة مجندتين قتلتا في عمليتين لمقاومين فلسطينيين خلال عامي 2016 و2017، حيث أرادوا منع الشبان المقدسيين من استخدامها والجلوس فيها والقيام بالعديد من الأنشطة والفعاليات الفنية والثقافية والترويحية.
ولكي تتصاعد حالة الاشتباك اليومية مع المحتل إلى اشتباك شعبي مفتوح، على ضوء إعطاء المستوى الأمني والسياسي الصهيوني الضوء الأخضر للمستوطنين من أجل القيام بعمليات التنكيل بالمقدسيين وبث الرعب والخوف في قلوبهم، حشدت الجماعات اليمنية المتطرفة من "لهافا" و"فتيان التلال" و"تدفيع الثمن" أنصارها مساء الخميس (أول أمس) من أجل تنفيذ عدوان وحملة ردع و"تأديب" بحق الشبان المقدسيين، وعملت على ممارسة العربدة والعدوان عليهم وعلى ممتلكاتهم ومركباتهم بحماية جيش وشرطة الاحتلال..
ولكن هذه "الغزوة" الصهيونية منيت بالفشل وارتدت عكسياً على الغزاة، حيث أثبت الشبان المقدسيون قدرتهم العالية على المواجهة والتصدي لهذه السوائب المنفلتة من زرائبها، واستطاعوا طردها، ولتشتعل بعد ذلك نيران الهبة الشعبية الفلسطينية، والتي لو كان هناك قيادات فلسطينية على مستوى التقاط الحدث والتناغم مع نبض الشارع الفلسطيني لبنت على نتائج الهبة المقدسية الجديدة وطورتها إلى فعل شعبي انتفاضي واسع.
والملاحظ بأن مفاعيل تلك الهبة انتقلت إلى الضفة الغربية والداخل المحتل والذي يعيش ظروفاً مشابهة للمقدسيين من حيث القمع والتنكيل ومخاطر الطرد والترحيل والتهجير القسري، وكذلك كان القطاع يتأهب للتقدم خطوة أخرى غير الفعاليات الشعبية والجماهيرية لنصرة القدس والأقصى، بدعم انتفاضة المقدسيين بالنار.
هذه الهبة مآلاتها مفتوحة وكذلك سيناريوهاتها مفتوحة، ولكن تبقى التطورات صعوداً وهبوطاً رهناً ليس بالعامل الفلسطيني فقط، بل بما يحدث من متغيرات وتطورات في الإقليم والمنطقة، ولكن يبقى العامل الحاسم في ذلك فلسطينياً، هل القيادة الفلسطينية والقوى والفصائل قادرة على التقاط الحدث وأن تشكل رافدًا وداعمًا أساسيًا لهبة المقدسيين، وأن تسهم بفعالية فيها في إطار القيادة والتأطير والتنظيم؟ أم ستبقى في غيبوبتها وانفصالها عن الواقع والجماهير؟!.