القدس ... سؤال الحياة !
عندما ينطلق أذانُ الفجرِ في القدس، تُلبي النداءَ عيونٌ لم تنَم منذ غَفَتِ السيوف، وتصدح القلوب بكلام الاستبشار بالرزق ولقمة العيش، وتتبدى طراوة الندى، ويهدِل حمامُ الساحات، ويُتمتِم المشاؤون في الظلام نحو النور، ويبزُغ بريقُ القِباب المتواعدة مع شمسِ يوم جديد، ويتعالى نداءُ إعلان الحضورِ المُدوي، والصلةِ الوثيقة، والانتماءِ العميق، ويتلاقى اليوميُ بالدهري، وتعانق السماءُ الأرض، وتتشابك الأدعيةُ والرجاءاتُ مع خُطى الجنازات، والضحكاتِ الخجولةِ عند عقدِ القِران، وفرحِ الأطفال مع المهرِجين، وأحاديثِ المحبةِ والعتب، والتراحم والجفاء، والوصال والخصامِ بين الأهل، وانهمارِ الدموع في عزِ الدُخان الحارق، والفلفلِ الحار الذي صار بديلًا عن "سُعُوط" الجدات، وهتافِ "الموت للعرب" الذي صار قاموسَ التفسيرِ لجذورِ المسألة، وبرجِ المراقبةِ الذي باتَ منصةٍ لذبحِ القمر في كل مراحله.
عندما تُطرح على بساط الفهم، لا تَكترث هذه المدينة بِعُمق التحليل او أصالة التنظير أو جزالة اللفظ أو بلاغة القلم... إنها تَتَكِلُ على إِله كونِها الفسيح، ثم تمشي في أنحاء الجغرافيا بلا تعب، وتتكِىءُ على كتِفِها العريض، ثم تستريح قليلًا بعد كل مُنازَلة في التاريخ. وتُطَرِز من صياحِ الريحِ ثوبَ الحُضورِ المُزَركَش.
نحن لا نخترع الحقيقة، ولا نكتشفها، بل نُرسخها ونؤكد عليها، إذا قلنا أن القدسَ في حالتها العادية هي الحقيقةُ الناصعةُ بِرُمَتِها، والحكايةُ الحاضرة بكل تفاصيلها، والرواية السهلة الممتنعة التي يتلعثَم الجميع وهو يتَهَجاها. هي اللاشيءُ عندما تَعمى القلوب التي في الصدور، وَكُلُ الاشياء بِقَضِها وقضيضِها عندما يُعلن حنظلة انحيازه. وهي بئر المعاني المستعصية على الادراك المريح، ومختبر الاسئلة المفتوحة على الأفق الرحب، لا تَلتَفِت الى أحد، وتلفِتُ أنظار الجميع.
هي مدينة الفسيفساء النازفة، وسجادة الألوان المتزاحمة على سطحها بلا مُواربة أو اختباء. مدينة التنوع الصاخب والنبض الجماعي المُرهف. يرى الناس فيها المئذئة والجرس والترانيم والابتهالات والصلوات والقداديس، والأبواب والقناطر والقِباب والمقاهي والخانات والحانات والمقامات والمقابر والأسواق، ويأكلون فيها الكعك والحمص والفلافل والبرازق والخبز والصفائح والأقراص والكنافة والمطبق، ويشربون السوس والتمر الهندي واللوز والجزر والخروب. ويعيشون فيها أيام رمضان والقيامة وكل الطقوس والعبادات والمعاملات والأعياد والاحتفالات، وينغمسون في آذار الخصب ونيسان الشهداء وكل الشهور والفصول.
منذ صرخات المخاض والمدينة في معركة مفتوحة من أجل صياغة الهوية وتشكيل الحضور، يُلجَم الصوت، وتُحجَب الصورة، وتُقضَم البيوت والساحات والطرقات وسطوح البيوت، وتُقطَع الطرق، وتُسَد المداخل، وتُصادَر البسطات، وتُغلَق النوافذ، وتُقَصُ حبال الغسيل، وتُهدَم الدور، ويُجتَث الشجر، وتُحرَق أوراقُ السَلقِ قبل انبعاث خُضرتها. وبكل انسيابية وتلقائية يتبرعَمُ الذين وُلدوا لِلتَو، ويتأجج فيهم الغضب والحزن والفرح والبكاء والغناء والحكايا والدبكة والمواويل والتواشيح والأهازيج والسهرات ومراسم التشييع وزفات العرس الذي لا ينتهي.
وإن كانت القدس مدينة البهجة والعرس الدائم فهي أيضًا مدينة الجوع والحرمان والنسيان والجحود والنكران والتهميش والشقاء والوجع والنزف والحصار والغيظ والكتمان. وفي غمرة كل هذا، ومع التلكؤ المُمِل، والانتظار الطويل، يتململ في أحشاء مجتمع القدس القبول المتدحرج، والتأقلم التدريجي، والتكيف البراغماتي، والسيولة والميوعة وفقدان المعيار. وتتسلل عيون المتاهة كي تفضي الى فقدان التمييز بين الألوان والخيوط والأسماء، سعيًا نحو عدميةٍ قومية، وموتٍ للهوية، وغسلٍ للعقل الجمعي، ومحو ٍ للتاريخ، وإبادةٍ للجغرافيا.
ولأنها في وجدان الناس رمزُ الطهارة والعذرية، ومنارةُ الوجود، ومرمى البوصلة، صارت قِبلةَ المستنجدين بالمكانة، يتَحَوَم حولها اللاهثون نحو فرص اكتساب المعنى، وسرقة الأنظار، ودفن المعايير، فتجلى في بيئتها ما يتمظهر من ركوب موج الأصالة، وامتطاء صهوة الطهارة، وارتداء زي القداسة، وادعاء احتكار المعنى، كي تتفشى بكل ترحاب وحفاوة بيانات الانتصارات الوهمية، ودواوين العنتريات، وعناقيد الزيف المتراخية على أطراف الضواحي، ومكرمات بيوت المال المنهوبة، وموائد شراء الذمم والضمائر، ونشوء المنابر والمناصب والأوسمة والدروع والنياشين، والتِقاط المرائين للصور الجماعية والفردية أمام السور وفي ساحات الصلاة وعند قراءة القرآن والركوع والسجود والدعاء والخشوع وانهمار الدموع ورفع أيادي التوبة والرجاء والأمنيات!.
إن القدس بكل ما تَنِزُ من طهارة وَوَرع مُداهَمةٌ بالعتمة، وغارقةٌ في ليالي الوحل، وفي سراديب الخوف، وأوكار الوعي المسلوب والوجدان المخدر، تنزفُ بالفجيعةِ والجريمةِ العابرة، وبالموت الأسود، ووأدِ الزهور المقتولة بلا ذنب. ويسيلُ في ثناياها دمُ المتاهة والتضييع والتمييع، وتُخلق معاييرُ جديدة للمعاني والقيم والفضائل والرذائل والرداءة والجودة والقبح والجمال، وتُستحضَر شياطينُ العِفة المسمومة، والشرف المنتهَك، والجهل المقدس، ويُحرَف المسار ُ عن مقومات الهوية الوطنية والعمق القومي والانتماء الحضاري، وتتخلى الذات عن ذاتها، فيحظى المتربصون بالوجود والكينونة والمصير بهدايا مجانية، تعفيهم من ثقل العبء الكولونيالي.
تنهَمِك هذه اليوميات المتلاطمة في المدينة، وتضاريسُها مغموسةٌ بِحِبرِ الزيف والكذب والتزوير والمحو والتبديد والطمس والإلغاء، يجتاحها النعيق المُتسربِلُ بريشِ الحداثة والمُحتمي ببلدوزر الأساطير، والمنتشي بالأراجيف وخرائط الوهم. وعندما يعجز الموت الفيزيائي عن أداء دوره، وترتبك حسابات المشهد المباشر بين الوردة والخوذة، يجري تسويق الصراع اليومي على أنه شِجارٌ بين سكان المدينة الواحدة، ونزاعٌ بين الجيران، يقوم الحرس وحافظو أمن المدينة والساهرون على سكينتها وسلمها الأهلي، بالعمل على استتباب الأمن وفَضِ النزاعات الفردية.