القدس تُستباح ...وتعاني الخذلان
الحرب في القدس محتدمة على كل الصعد والمستويات، والصراع يجري حول حسم مسألة السيادة وتغيير المشهد الكلي وهوية المكان، وتغييب الرواية الفلسطينية وتزوير التاريخ، فلا يكاد يمر يوم واحد دون أن يحمل للمقدسيين مصائب جديدة، ففي زمن الإغلاق بسبب انتشار جائحة " كورونا"، أصبح ممنوع على أهل القدس الدخول إلى البلدة القديمة، وكذلك ممنوع على من هم من غير سكان البلدة القديمة الصلاة في المسجد الأقصى..
وليس هذا فقط، فسيف المخالفات مسلط على رقاب المقدسيين، بحجة مخالفة تعليمات الوقاية من جائحة "كورونا" بالنسبة للأفراد، أما بالنسبة للمحال التجارية فالمخالفة ارتفعت من 5 آلاف شيقل إلى عشرة، والبلدة القديمة من المدينة أصبحت كئيبة وحزينة، فالمحلات التجارية مغلقة، والتجار يزداد وضعهم مأساوية، فمنهم من الإغلاق الأول في 5/3/2020، محله مغلق ولا يعرف كيف يتدبر أموره الحياتية، ومنهم من ينتظر كيف ستسير الأمور، وآخرون ذهبوا للعمل من أجل تدبر أمورهم الحياتية، ومنهم من تتراكم عليه الديون والقروض..
وفي هذا الإغلاق وجدنا بأن الجماعات التلمودية والتوارتية، استغلت إغلاق البلدة القديمة أمام المقدسيين، وعدم وجود كتل بشرية كبيرة، وقاموا ببناء العرائش من سعف النخيل في قلب البلدة القديمة وأسواقها في عيد العرش وفرحة التوراة..
وفي الوقت الذي يمنع فيه المقدسيون من غير سكان البلدة القديمة من الصلاة في الأقصى، تواصل الجماعات التلمودية والتوراتية اقتحاماتها للأقصى، وكل من يتصدى لهم وهم يحاولون أداء صلواتهم وطقوسهم التلمودية والتوراتية وفرض وقائع جديدة، إما أن يعتقل أو يبعد عن الأقصى لفترة ليست بالبسيطة..
الحياة والحركة في القدس شبه ميتة ولا يعكر صفوها سوى جيش وشرطة الاحتلال، الذين يواصلون اقتحاماتهم للقرى والبلدات المقدسية، تارة يأتون من أجل الدهم والتفتيش والاعتقالات، وأخرى من أجل توزيع إخطارات الهدم أو إجبار مقدسي على هدم بيته بيديه، أو البديل جرافاتهم وبلدوزراتهم تهدم وعليه دفع تكاليف الهدم والقوة التي تحرس وترافق العملية، والمبلغ هنا لا يقل عن 20 ألف دولار، فوق الكارثة مصيبة أخرى ...
مخططات التهويد لا تتوقف والإعلان عن إقامة مشاريع استيطانية متواصل، فهناك إعلان عن إقامة 450 وحدة استيطانية على مدخل صورباهر الغربي، والتي أصبحت المستوطنات تحيطها من جوانبها الأربعة، وأكثر من تسعة آلاف وأربعمائة دونم من أراضيها تصادر لصالح المشاريع الاستيطانية، ومخططات الاستيطان والشوارع الالتفافية من شارع الطوق إلى الشارع الأمريكي، الهدف تدمير أراضي القرى الفلسطينية الزراعية التي تمر بها تلك الشوارع وتمزيق وتفتيت أراضي تلك القرى وعزل أحيائها عن بعضها البعض، وكذلك قطع التواصل الجغرافي والديمغرافي بين البلدات المقدسية، وتحويلها إلى وحدات اجتماعية مستقلة، فالخطة الحكومية الإسرائيلية الخماسية 2018- 2023 والمرصود لها 2 مليار شيكل واضحة، دمج العرب المقدسيين في المجتمع والاقتصاد الإسرائيلي، وما يتبقى منهم، يعيش في جزر متناثرة في محيط إسرائيلي واسع، إسرائيل لا تريد السكان، تريد ضم أكبر مساحة من الأرض وأقل عدد من السكان، بما يستجيب لمخططاتها في تغيير الواقع الديمغرافي في المدينة لمصلحة مستوطنيها بشكل كبير 12% عرب و88 مستوطنين، بعد توسيع مساحة القدس لكي يصبح 10% من مساحة الضفة الغربية، وبما يضمن ضم مستوطنات جنوب غرب المدينة وشمال شرقها إلى ما يسمى بحدود بلدية القدس، مئة وخمسين ألف مستوطن، وإخراج سكان القرى والبلدات المقدسية من حملة هوية القدس خلف جدار الفصل العنصري من حدود ما يسمى بلدية القدس، مئة ألف فلسطيني مقدسي.
وبقدر ما هي الحرب مُستعرة على الأرض والوجود الفلسطيني وكل تعبيراته السياسية والثقافية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية، تشتد الهجمة على المنهاج الفلسطيني وفق مخطط مدروس وممنهج للسيطرة على العملية التعليمية في القدس بالكامل، ففي الخطة الخماسية رصد لذلك مبلغ 875 مليون شيكل من أصل 2 مليار شيكل، فلا سيادة وطنية دون تعليم وطني، ولذلك لا بد من حرب على الهوية والثقافة والكينونة والرواية والتاريخ الفلسطيني، وهذا يحتاج إلى ضخ إمكانيات مالية ضخمة وجهود وأدوات محلية تتعاون وتنفذ، وللعلم 12 لجنة من أصل 17 لجنة إسرائيلية تتعامل مع سكان القسم الشرقي من المدينة يقودها ضباط أمن سابقون، والعملية التعليمية في المدارس العربية في القسم الشرقي من المدينة، يخضع الإشراف عليها لخمسة أجهزة من وزارة تربية وتعليم وبلدية ودائرة معارف وشرطة و"شاباك" ومكتب رئيس الوزراء، ولذلك التعيينات التي تجري سواء في مكتب التربية أو الوزارة من موظفين عرب ومفتشين (مشرفون تربويون) ومدراء مدارس، يجري اختيارهم وبما يضمن تنفيذ المخططات الرامية لأسرلة العملية التعليمية، فالمستهدف هنا هي الفئة الحية والشابة من مجتمعنا، فئة الطلبة، المطلوب أسرلة وعيهم، وهذا يحتاج "كي" و"تقزيم" و"تطويع" و"صهر" هذا الوعي والسيطرة على الذاكرة الجمعية للطلبة من خلال المنهاج الإسرائيلي، والهادف إلى زعزعة ثقة الطلبة بمشروعية نضالهم ومقاومتهم، والتشكيك بروايتهم وتاريخهم، ووضع علامات استفهام كبيرة حول حقوقهم الوطنية، ولذلك شهدنا من خلال ضخ الميزانيات الكبيرة للمدارس التي تدرس المنهاج الإسرائيلي، أو من خلال إقامة أبنية مدرسية جديدة تدرس المنهاج الإسرائيلي، وفي ظل غياب رؤيا وإستراتيجية فلسطينيتين تقومان على توسيع دائرة السيطرة على العملية التعليمية في القدس عبر تشكيل صناديق خاصة لدعم التعليم الفلسطيني، وضخ ميزانيات حقيقية ورواتب منافسة للرواتب التي يتلقاها العاملون في المدارس التابعة لبلدية الاحتلال ودائرة معارفها، وإقامة مدارس جديدة تنافس من حيث الجودة والكفاءة والبنية التحتية والبيئة التعليمية، تقدم في نسبة المدارس التي تدرس المنهاج الإسرائيلي من 5% إلى 12 % العام الدراسي 2020 -2021، فهذه المدارس ورغم كل المضايقات عليها من قبل الاحتلال، ولكن ما يجب قوله، إن هناك خلل كبير تتحمله الوزارة ومديرية التربية الفلسطينية في القدس، حيث أضحت مدارس الذكور التابعة لوزارة التربية والتعليم في مدينة القدس تعاني من تناقص كبير في أعداد الطلبة، بحيث لا تصل نسبة إشغال الطاقة الاستيعابية في بعض تلك المدارس إلى 50%.
القدس تعاني من حالة غير مسبوقة من الخذلان من قبل السلطة الفلسطينية والقيادة والفصائل بشكل كبير، والتحجج بعدم توفر الميزانيات والإمكانيات، لا يمكن تبريره بالمطلق، وكذلك ما يشاع عن الدعم العربي والإسلامي في أغلبه فقط في الإعلام واللقاءات المتلفزة والشعارات والخطب الرنانة، ولكن في أرض الواقع كما يقول المأثور الشعبي المقدسيون "يسمعون طحناً ولا يرون طحينا"، وشعارات "القدس خط أحمر" و"القدس عاصمة الدولة الفلسطينية" يعوزها الفعل والترجمة على أرض الواقع.
ولسان حال المقدسيين اليوم يقول "كفانا الله شر العرب والمسلمين" والذين أصبحوا جزءا من المشروع الأمرو صهيوني المستهدف قضيتنا وقدسنا، وكان الله في عون المقدسيين.