ثلاثون عامًا على مذبحة الأقصى
في مثل هذا اليوم قبل 30 عامًا، صبيحة الإثنين 1990/10/8 تحديدًا، ارتكب الاحتلال جريمة مروّعة في المسجد الأقصى باتت تعرف بمذبحة الأقصى الأولى. ففي ذلك اليوم، حاولت مجموعة "أمناء جبل الهيكل" وضع حجر الأساس لما يسمونه "الهيكل الثالث" بقيادة المتطرف غرشون سلمون. لكن أهل القدس انتفضوا لمنعهم، فتدخلت قوات الاحتلال الموجودة في الأقصى لمصلحة المستوطنين، وأطلقت النار على المصلين فاستشهد 21 منهم وأصيب 150 بجروح مختلفة، واعتقل الاحتلال 270 شخصًا. وعلاوة على ذلك، عملت سلطات الاحتلال على عرقلة وصول سيارات الإسعاف إلى المكان لإسعاف الجرحى، بل وأصيب عدد من الأطباء والممرضين في أثناء تأدية واجبهم.
على مدى الأعوام التي تلت تلك المذبحة لم تتوقف اعتداءات الاحتلال على المسجد وأهله، بل إنّ تلك الأعوام شهدت تصاعدًا في الدعم السياسي والأمني لـ "جماعات الهيكل"، وللاعتداء على الأقصى، ومزيدًا من محاولات تغيير الوضع القائم فيه. وبات أعضاء "الكنيست" والوزراء في حكومة الاحتلال يشاركون في الاقتحامات، ويسعون، عبر "الكنيست"، إلى "استعادة حق اليهود بالصلاة" في الأقصى، وفق مزاعمهم. أمّا على المستوى الأمني، فإنّ الدعم كان واضحًا مع توفير الحماية للمستوطنين في أثناء اقتحاماتهم وتوسيع هامش هذه الاقتحامات والتساوق مع مطالب "جماعات الهيكل"، إذ باتوا يؤدون الصلوات والطقوس التلمودية في الأقصى فيما الشرطة ترافقهم وتراقبهم، وتمنع المسلمين من الاقتراب منهم أو عرقلة طقوسهم، إضافة إلى إقصاء حراس المسجد عن مسار الاقتحامات لمنعهم من أداء دورهم وتوثيق الاعتداءات. وقد زاد الدعم الأمني للاقتحامات بشكل ملحوظ منذ تولّي جلعاد إردان، من حزب "الليكود"، وزارة الأمن الداخلي في عام 2015 إذ أظهر تأييدًا كبيرًا لمطالب "جماعات الهيكل".
في عام 1996، هبّ المقدسيون غضبًا لمواجهة اعتداء كبير وخطير على الأقصى بعد إعلان سلطات الاحتلال فتح النّفق المجاور للجدار الغربي للمسجد، فكانت هبّة النفق رفضًا لهذا الاعتداء وارتكب الاحتلال فيها ما عرف بمذبحة الأقصى الثانية إذ استشهد فيها 51 فلسطينيًا فيما قُتل 15 من الإسرائيليين.
في عام 2000، اقتحم أريئيل شارون المسجد الأقصى مع الجنود المدجّجين بالسلاح لحمايته وتمكينه من تنفيذ مسعاه، فكان ذلك الاعتداء وما صاحبه من تصريحات لشارون حول بقاء الأقصى تحت السّيادة الإسرائيليّة الشرارة التي فجّرت انتفاضة الأقصى التي استمرّت على مدى خمس سنوات. وكانت المواجهات على أشدّها بين قوات الاحتلال والمصلين الذين احتشدوا لصدّ الاقتحام ومنع تمريره وكأنّه أمر طبيعي ومقبول، ثمّ تجدّدت المواجهات في اليوم التالي للاقتحام، وارتكب الاحتلال مذبحة الأقصى الثالثة التي ارتقى فيها 7 شهداء، وتمدّدت من بعدها المواجهات إلى كلّ فلسطين.
في عام 2015، انطلقت انتفاضة القدس المعروفة بانتفاضة السكاكين، وكان العامل المفجّر لها هو تصاعد الاعتداءات على الأقصى والاستهداف الهمجي للمرابطات ومنعهنّ من الدخول إلى المسجد، وتقييد الرباط، والتشديد على المسلمين، وإبعادهم عن المسجد في مقابل السماح بالاقتحامات، وتمكين المستوطنين من تنفيذ اقتحاماتهم من دون التعرّض لـ "مضايقات" المصلّين الذين يتصدّون لهم بالتّكبير.
في عام 2017، حاول الاحتلال فرض تغيير جديد في الوضع القائم في الأقصى عبر وضع بوابات إلكترونية عند أبوابه، متذرّعًا بعملية الأقصى التي نفّذها ثلاثة شبان من عائلة الجبارين من الداخل الفلسطيني المحتلّ، وكان الهدف من هذه البوّابات فرض رقابة أمنيّة على المسلمين في أثناء دخولهم إلى الأقصى، وزيادة التضييق عليهم بذريعة المخالفات الأمنيّة. وقد رفضت جماهير القدس هذه الإجراءات واعتصمت بالصلاة خارج المسجد حتى بعدما فتحه الاحتلال، وكانت الدّلالات واضحة لما عرف بهبة الأسباط، أو معركة البوابات، ومفادها رفض جماهير القدس معادلة جديدة يفرضها الاحتلال في طريقه لإثبات السّيادة الإسرائيليّة على الأقصى، والعمل على إحباطها.
تكرّر الأمر في عام 2019 مع هبّة باب الرحمة، التي كسرت محاولات الاحتلال لتغيير الوضع القائم عبر استهداف باب الرحمة بدءًا من عام 2003 عبر قرار إغلاق المبنى ومنع استعماله بذريعة وجود مكاتب فيه عائدة للجنة التّراث التي صنّفها على أنّها إرهابيّة، ثمّ عاد ليجدّد قرار الإغلاق عام 2017 على الرغم من تأكيدات الأوقاف الإسلامية أنّ لجنة التراث لم تعد قائمة. وعندما وضع الاحتلال قفلاً على أعلى الدرج المؤدّي إلى باب الرحمة، بعدما أدّى الصلاة فيه أعضاء مجلس الأوقاف الجديد، هبّت جماهير القدس لتمنع الاحتلال من تكريس الوضع الذي بدأ بفرضه قبل قرابة 16 عامًا، فكانت الهبّة التي تحقّق فيها إنجاز استعادة باب الرحمة وأداء الصلاة فيه بعد أعوام من سيطرة الاحتلال عليه.
إذًا، على مدى السّنوات التي تلت مذبحة الأقصى الأولى تكرّر المشهد الذي تبلور في المسجد في عام 1990، وهو ممتدّ رجوعًا إلى ثورة البراق عام 1929، بما يؤكّد أنّ المواجهة ثابتة ومستمرة بين مسارين: الاحتلال واعتداءات مستوطنيه ومحاولات تغيير الوضع القائم فيه من جهة، وجماهير القدس التي تغضب للأقصى وتبذل النفس والجهد لمنع الاحتلال من التّمادي في اعتداءاته وإحكام سيطرته على المسجد من جهة أخرى، وهو بذل لن ينتهي إلّا إلى استعادة الأقصى إلى أهله وأصحاب الحقّ فيه.