بين لونيْن.. الاحتلال يسلبُ هويةً ويُفرق عائلة
القدس المحتلة- القسطل: "أُخبر ابنتي من الآن أنها لا تستطيع الزواج بشابٍ لا يحمل الهوية المقدسية؛ لأنني لا أريدها أن تعاني مما عانيت منه.. الداخلية والتأمين وأوراق ومحامين، أمور لا أتمنى لابنتي الخوض فيها، لأنها لا تنتهي بيوم أو يومين، تسرق سنيناً من العمر".
بطريقةٍ مختلفة توصي والدة إسراء ابنتها، بعد أن كانت هويتها وزوجها سبباً لشقاء عائلتها بالكامل لعقدين من الزمن.
أما ابنة العشرون عاماً إسراء رباح فلا تستغرب وصية والدتها؛ لأن ما واجهته وأشقائها بالسنوات الأخيرة في محاولاتهم للحصول على بطاقة هوية والدتهم المقدسية كانت قاسية، وقسمت عائلتهم إلى ثلاثة أقسام بين بطاقة هوية فلسطينية وبطاقة هوية "إسرائيلية" ولم شمل مع إقامةٍ تتجدد كل فترة زمنية تحمل بين طياتها الكثير من التفتيش والتحقيق وأوراق تعجيزية ترهق كاهل الأسرة.
لا يخفى على أحدٍ وضع بطاقة "الهوية" في فلسطين، حيثُ بدأت المعاناة مع الاحتلال "الإسرائيلي" للأراضي الفلسطينية الذي عمل على تفريق الشعب الفلسطيني بكافة السبل، وعلى رأسها كانت "بطاقة الهوية".
لون المحفظة البلاستيكية لبطاقة الهوية للمقيمين الدائمين في "دولة الاحتلال" هو أزرق، وشعار "دولة إسرائيل" محفورٌ على الغلاف الخارجي لها.
بدأ الاحتلال بإصدار بطاقات هوية للسكان الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة بعد احتلالها عام 1967، وكانت تُصدر من جانب إدارة "إسرائيلية" تُسمى بـ "الإدارة المدنية"، وكان لون محفظة الهوية برتقالياً لسكان الضفة الغربية وأحمر لسكان قطاع غزة.
أما الفلسطينيون الممنوعون من دخول مناطق الاحتلال "الإسرائيلي" كانوا يحصلون على غلاف أخضر بدل من برتقالي؛ من أجل تمييزهم.
ومنذ تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية، أصبحت هي المسؤولة عن إصدار بطاقة هوية للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، بناءً على الموافقة "الإسرائيلية. وهي مطابقة للبطاقات التي تصدرها الإدارة المدنية "الإسرائيلية" باستثناء تبديل الكتابة العبرية للعربية، والمحفظة البلاستيكية الخضراء عليها نقش "السلطة الفلسطينية".
وبهذين اللونين بات الشعب الفلسطيني الواحد يحمل بطاقات تعريفية تفصل الأخوة عن بعضهم البعض، الأخضر والأزرق لونين باتا يؤثران ويحددان بشكلٍ كامل مسار حياة حاملهما، وهو ما واجهته إسراء وعائلتها التي فصل اللون بينها وبين أشقائها.
تقول إسراء لـ "القسطل" بكلماتٍ تخلو من البهجة: "في عام 2014 حينما علمنا بأن منطقتنا "الولجة" الواقعة جنوب غرب القدس هي منطقة تتبع للاحتلال، بدأت والدتي بالعمل لتوفير هويات زرقاء لنا.. نحن ستة أخوة 4 ذكور و2 إناث، لدي شقيقين أكبر مني لم يحصلا على هوية زرقاء ولا لم الشمل؛ لأنهم كانوا قد بلغوا الثمانية عشر عاماً، وأخت وأخوين أصغر حصلوا على الهوية المقدسية".
وتتابع: "أما أنا كنت حينها قد بلغت الخامسة عشر والنصف وبحسب قوانين الاحتلال لا يمكن استصدار هوية مقدسية لي"؛ مما تسبب بأن تحمل العائلة الواحدة ثلاث بطاقات هوية مختلفة.
من هنا بدأت معاناة إسراء في ضياع الهوية وسلب حريتها في التنقل والحركة، بقيت كعصفورٍ صغيرٍ في قفص لا تقدر على مغادرته ولا مغادرة بلدتها؛ لعدم امتلاكها وثيقة تُعرِف عنها على الحواجز العسكرية الفاصلة بين القدس والضفة، والتي كانت ولا زالت تُضيق على حاملي البطاقات الخضراء ولم الشمل.
فصلٌ عنصري تجرعته إسراء لسنواتٍ عدة، وفي عمر التاسعة عشر أقدمت على استصدار هوية فلسطينية "خضراء".
وتروي لـ القسطل التفاصيل: " الحياة صعبة جداً مع وضعٍ كهذا، لقد اختلف مجرى حياتي كلياً لم استطع الالتحاق بالجامعة التي أريدها ولا التخصص الذي كنت أطمح له، وذلك لعدم امتلاكي لهوية تعرف عني".
وبحسرةٍ اجتاحتها أكملت: "الاحتلال حبسني من جميع الاتجاهات.. لا أستطيع القيام بشيءٍ، لا السفر، ولا الحصول على رخصة قيادة، ولا حتى الحصول على شهادة تعليم اخترتها".
بحرجٍ واضح وكلماتٍ يملأها الحزن بيَّنت إسراء أن شرخاً كبيراً قسم عائلتها، وتابعت: "هذا الوضع ينشأ إحساساً غريباً بين العائلة الواحدة، كأنهم يملكون ميزات لا نمتلكها.. كأنهم أفضل منّا بهذه الهوية".
وبعد إلحاحٍ تمنيت لو إني لم أقدم عليه أجابت: "هناك فصل عنصري أحدثه الاحتلال بيننا نحن الأخوة.. أختي حصلت على الهوية قبلي، وتخرج هي ووالدتي لزيارة الأقصى، أتمنى لو أنني أستطيع مرافقتهما، لكن ممنوع! أشعر بحزنٍ كبير وأقول لهن: "متى رح يجي اليوم وأصير زيكم؟".
تصمت قليلاً ثم تتنهد تنهيدة طويلة، وتستحضر بذاكرتها ذكريات مؤلمة وتقول: "بالبداية، لم أستطع مرافقة عائلتي على أي مكان، وهذا شعور صعب جداً، ما الفرق بيننا ونحن عائلة واحدة؟".
لم تتمكن الشابة الصغيرة من زيارة القدس وبقية الأراضي المحتلة برفقة النصف الأصغر من عائلتها إلا حديثاً، وفي أول زيارة لها للمسجد الأقصى تبجح عليها جندي "إسرائيلي" كان يراقب أبواب المسجد الأقصى، وبعد فحص هويتها وهوية شقيقتها بدأ يحقق معها: "ليش إنتِ أخضر وأختك أزرق؟".
وتكمل بغصّة تفاصيل الواقعة: "نحو ساعة وهو يُحقق معي ويطرح الأسئلة، وأخبرته مجيبة على سؤاله الذي أخذ يتكرر بمكرٍ واضح، وقلت: "لأنه بالطبيعي لا يوجد لديكم عدل".
"قال لي بعد انتهاء أسئلته بسخريةٍ واستهزاءٍ واسع: إنتِ أخضر معناها إنتِ أكلتيها"، لم تخفي إسراء كدرتها التي شعرت بها والتي تتمنى أن تحذفها من ذاكرتها التي نغصت عليها سعادتها بلقائها قبة الصخرة ذلك اليوم.
لم يكتفِ الاحتلال بحصار حركة الفلسطينيين من خلال بطاقة الهوية فقط، بل حدد بمن يمكن أن تتزوج كفلسطيني تعيش في مدينة القدس، هي فكرة تكاد تكون مجنونة عند سماعها للمرة الأولى إلا أنها حقيقية.
ويمكن أن يخاطر الفلسطيني الذي يحمل بطاقة "هوية زرقاء" بفقدانها، ومنعه من دخول القدس والمناطق الواقعة تحت الاحتلال وسلبه أبسط حقوقه، في حال تزوج من فلسطينية حاملة "للهوية الخضراء" وعاش برفقتها في الضفة الغربية، والعكس بالمثل.
وهذا ما واجهته إسراء وخطيبها الذي يحمل بطاقة هوية زرقاء، وتتابع والرعب يملأ قلبها: "أخاف أن يؤثر ذلك علينا حينما نتزوج، وذلك لأني وخطيبي تختلف "ألوان هويتنا"، نتكلم ذات اللغة، ونعتنق نفس الديانة، وننتمي لوطن واحد، لكن الاحتلال يفصل بيننا!".
اختلاف ألوان هويات لم يختر أي منهما زرقتها أو اخضرارها ستكون فاصلاً مؤرقاً يحمله زوجان أرادا بناء بيتٍ يملؤه الطمأنينة والحب، ليستبدله الاحتلال بالقلق والحسابات السياسية التي باتت تعكنن عليهما صفو حياتهما.
يعتبر هذا الأمر عقبة في وجه الآلاف من الفلسطينيين؛ نتيجةً للمشاكل التي قد تواجههم وتحرمهم الحياة المشتركة في المكان الذي يفضلون العيش فيه.
إذ أن الاحتلال لا يعترف بحق الفلسطينيين في الحياة الأسرية كحقٍ أساسي، بل يرى الحياة الأسرية كورقة مساومة على الوجود الفلسطيني في المكان وخصوصاً في مدينة القدس، تستخدم للحرمان من الوجود في القدس أو غيرها من المناطق الفلسطينية برفقةِ عائلتك، إلا أن إسراء وعائلتها يشكلون مقاومة حية على إثبات الوجود وتشكيل أسرة فلسطينية تتوارث الوطن والقضية.
. . .