جيتوهات المستوطنين في القدس تفضح زيف الهوية المشتركة
القدس المحتلة - القسطل: البحث في القدس عن هوية رمزية، هو آخر مهمات الصهيونية، التي فشلت في تكوين هوية جامعة للمجتمع الاستعماري، وظل الفرد في هذا المجتمع غير قادر على تحديد هويته وشخصيته ضمن العالم المعاصر ومتغيراته، لذلك سعت الصهيونية إلى التأسيس لهوية رمزية (القدس)، كما يرى الباحث عبد الله عمر في دراسته "إسرائيل والقدس وأزمة الهوية" المنشورة عام 2011.
يرى جورج ميد أن الوعي بالذات ليس إنتاجا فرديا صرفا، وإنما ينتج من مجموع تفاعلات اجتماعية يكون الفرد منغمسا فيها ومشبعا فيها؛ أي أن الشعور بالهوية ليس معطى أوليا في الوعي الفردي بل حصيلة آلية اجتماعية وتراكمات بيئية تتداخل لتشكل مسمى الهوية. من هذه المنطلقات يمكن تفكيك البيئة الداخلية للمستوطنين اليهود في القدس، والتي تبدو أكثر اشتباكا من الصورة التي تحاول حكومات الاحتلال تصويرها وتصديرها.
العلاقة بين المستوطنين اليهود في القدس، مشبعة بالتوتر، الذي بكل تأكيد مرجعه ثقافي، حيث تختلف أنماط الحياة بين المستوطنين المتدينين والعلمانيين، مثلا في موضوع العمل خلال يوم السبت. لذلك تشكلت أحياء يحكمها أنماط محددة، إلى درجة الفصل التام بين الأحياء. هذا التوتر ينعكس في محاولة كل طرف كسب سلطة سياسية وإدارية داخل مرافق المدينة، مثل البلدية وغيرها، والهدف النهائي لكل طرف هو السيطرة على الفضاء العام.
كما أشرنا، الصراعات الثقافية والقيمية بين المستوطنين في القدس، أدى في النهاية لخلق تقسيمات جغرافية صلبة. في شمال المدينة المحتلة، بالقرب من المراكز التجارية القديمة، يتركز المستوطنون المتدينون. في الجنوب يتكثف وجود المستوطنين العلمانيين، وهي تقسيمات تعيد المستوطنين إلى نظام الجيتوهات والعزل، والتي أثبتت التجربة أنها تخلق مناخا من التضاد والعنصرية المتبادلة، وقد أدت في حالة القدس إلى تزايد ظاهرة هجرة المستوطنين العلمانيين إلى خارج المدينة إلى مناطق محتلة أخرى من فلسطين.
ووفق بيانات نشرتها بلدية القدس عام 2021، للملخص الإحصائي لعام 2020، فإن المدينة تضم أكبر عدد من المستوطنين في "إسرائيل"، وفيها أكبر تجمع للمستوطنين المتدينين في "إسرائيل". في عام 2019، كان عدد المستوطنين في المدينة 577600، من بينهم 241،900 مستوطن متدين، ويشكلون حوالي (24٪) من مجموع المستوطنين المتدينين في مجتمع الاحتلال. وارتفعت نسبة المستوطنين المتدينين في القدس إلى (27%) من مجموع المستوطنين المتدينين في مجتمع الاحتلال. وفي عام 2020 أيضا وصلت نسبة المستوطنين المتدينين في القدس 44٪ من مجموع المستوطنين في المدينة.
وفي هذا السياق يرى عبد الله معروف الباحث في شؤون القدس أن الاحتلال سيطر على القسم الشرقي من مدينة القدس منذ أكثر من خمسين عاماً، ومع ذلك فإن المدينة المقدسة لا زالت تحمل طابعها العربي الإسلامي والمسيحي الواضح بالرغم من كل محاولات الاحتلال جعلها رمزاً له..! وهذا يعطي صورةً عن فشل المحاولات الإسرائيلية المستميتة على مدار أكثر من خمسين سنةً لتحويل القدس لرمزٍ يعطي فكرةً عن طبيعة مشروع الاحتلال بعكس مدن الساحل مثل تل أبيب على سبيل المثال.
وتابع معروف في حديث مع " القسطل" أن الاحتلال يسعى حالياً لخلق واقع تهويدي في المدينة بالقوة، وقد أثبتت تجارب التاريخ أي مثل هذه المحاولات لابد أن تفشل، فقد فشل الفرنجة قبل تسعمائة عام في ذلك، والاحتلال الصهيوني اليوم ليس بعيداً عن نفس المصير الفاشل.
وفي السياق اعتبر محمد هلسة المختص في الشؤون المقدسية بأن "إسرائيل" تولي القدس أهمية خاصة وكل الأنشطة التي تجريها داخل المدينة التهويدية والاستيطانية لا تقصد من خلالها فقط البحث عن الحيز إنما أكثر بالبحث عن الهوية فالحيز متاح لديها بإيجاد مساكن للمستوطنين وهم يسيطرون على فضاء واسع جدا بمدينة القدس والضفة الغربية وغيرها وبإمكانهم إيجاد حيز جيد، لكن مشكلتهم مع الهوية، بمعنى لا يمكن أن تدعي "إسرائيل" أمام العالم أن هذه المدينة عاصمة دولة اليهود ولا رموز تاريخية دينية ولا يمكن أن تكون هذه المدينة مدينة يهودية واليهود فيها أقلية
وتابع هلسة في حديث لـ " القسطل" أن الصراع داخل مدينة القدس هو صراع هوية على أنقاض الهوية العربية وكل ما في داخل المدينة يقول للاسرائيليين لا مكان لكم فيها، حيث لا يوجد لها إرث حضاري أو تاريخي وحتى على مستوى الوجود الانساني هم أقلية وما زالوا أقلية وكل محاولات "إسرائيل" لتغييب الوجه العربي للمدينة يجابه بأهلها الأصليين الذين يشكلون العائق الأساسي أمام "الوجود الإسرائيلي" من قلب الحقائق التاريخية وهذه أزمة "إسرائيل"، وكل المحاولات المستمية داخل القدس تأتي في إطار فرض هوية تلمودية توراتية لليهود داخل المدينة على أنقاض الوجود العربي والإسلامي فيها.
وفي ظل التوتر بين المستوطنين أنفسهم في مدينة القدس، ووجود أحياء للمتدينين والعلمانيين وهذا التقسيم الثقافي الحاد، تتكشف عدم قدرة الاحتلال على جعل القدس مركزا لهوية مصطنعة رمزية، وفق هلسة، الذي يرى أن هذا جزء من الصراع القائم داخل مجتمع الاحتلال في ظل الانقسامات الحادة التي يعيشها، وتمزقه، لكن التهديد العربي يبقي هذه الانقسامات تحت الرماد، وأحد القادة الأمنيين الإسرائيليين قال ذات مرة :" يجب أن تبقى الراية الأمنية مقدمة ومرفوعة على كل الرايات" وهنا يقصد التهديد الأمني يجب أن يتقدم على جميع التناقضات داخل مجتمع الاحتلال، وهذه التناقضات تعبر عن نفسها حتى على مستوى تشكيل الحكومة فمثلا لليهود الروس حزب سياسي وكذلك اليهود المتدينين.. الخ من تشكيلات تعبر عن حالة الانقسام، وهي أيضا تعبر عن حالة الفوقية والطبقية التي ينظرها اليهودي للآخر من ذات اليهودي، وهذا ما يظهر مثلا بحالة الفوقية بين اليهود الغرب تجاه اليهود الشرقيين وكذلك حالة التهميش التي يعيشها يهود إثيوبيا، هذا كله يدلل على حجم التناقضات داخل المجتمع الاسرائيلي.
لكن عبد الله معروف يعتقد أن كل التيارات في مجتمع الاحتلال تحاول أن تجعل من القدس ذات رمزية عالية، فهي بالنسبة للمتدينين ذات رمزية دينية خاصة، بينما تحمل رمزيةً قوميةً ووطنيةً لدى العلمانيين وهذا لا يعني أنهم غير مختلفين في نظرتهم للمدينة، ففي داخل التيار العلماني يوجد تيار فرعي لا يرى في القدس أكثر من أزمة للدولة، ويجاهر بمطالبة دولته الانسحاب من القسم الشرقي منها (المحتل عام ١٩٦٧) لأنه يرى في القدس طعنةً في خاصرة دولة الاحتلال، وهذا التيار وإن كان موجوداً بقلة، إلا أن صوته يرتفع من فترةٍ إلى أخرى كلما تصاعدت الأحداث في القدس.
وحاولت "إسرائيل" الاستفادة بأكبر قدر ممكن من إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في مايو 2017 بأن القدس عاصمة "إسرائيل" حيث رأى هلسة أن هذا يدلل على محاولة الاحتلال توظيف علاقاته الدولية والإقليمية لخلق هذه الرمزية، التي يفتقدها واقع مجتمع الاحتلال في المدينة.
. . .