العرب وإسرائيل.. ضَعُفَ الطالبُ والمطلوب
ثمة ما يجعلُ الحديثَ عن بصيص أملٍ أمراً مُتعذّراً في ظل السواد الذي يَحُفُ الحالة العربية العامة، وما يرتبط منها بالشأن الإسرائيلي على وجه التحديد.
ولعلّ وعينا العربي كوته، أو كادت، صورة إسرائيل التي لا تُقهر على امتداد خيبات أنظمتنا الرسمية منذ نشوء الكيان العبري وإلى اليوم.
ولا نُجافي الحقيقة إن قلنا أن سوادنا الأعظم، بات مأخوذاً بسطوة وقوة هذا الكيان الإستعماري وما نتج عنها من تمدده واتساع رقعة تأثيره في عالمنا العربي، بل على مستوى الإقليم والعالم.
ولعله من نافلة القول التأكيد على أن الأنظمة الاستعمارية التي أنشأت دولة "إسرائيل" تعهدت بضمان استمرار قوتها وتفوقها على حساب تفتيت العرب واستمرار تشرذمهم.
ولم يكن سلوك ترامب الاستعلائي تجاه أنظمة التطبيع وسيقها للتوقيع على اتفاقيات سلامٍ وتعاونٍ مع دولة الاحتلال إلا ضمن هذا السياق وإن بصورةٍ فَضَةٍ فاضحة. ورغم استقباحنا لهذا الانقياد إلا أن جزءاً كبيراً منا ظلَ متشبثاً بِحَبلِ الوهم القائلِ أنه ما كان لهذه الهرولة أن تجري لولا ضغط الإدارة الأمريكية وإملاءاتها، وردّدنا من باب التمني أن هذه الأنظمة سيقت مُكرهةً إلى "حظيرة التطبيع".
والواقع أن هذا التشخيص بدى مريحاً للبعض منا إذ ظل يراهن على بعض "عِرقٍ من حياء" ليعيد هذه الأنظمة إلى رشدها بعد أن ظهر أن إدارة ترامب وعلى إثر نتائج الانتخابات الأمريكية الأخيرة قد ولّت إلى غير رجعة.
ومع ذهاب السَكرة بقيت الفكرة، بل وازداد طوقها اتساعاً وتسارعاً، وبات يَلُفُ الأفق حتى خُيّل إلينا أنه ما كان لهذا العشق الممنوع أن يظهر للعلن بهذه الحميمية والاندفاع فجأةً لو لم يكن يجري في الخفاء منذ سنوات.
ولم نكن نعلم أننا على أعتابِ قفزةٍ عربية علنيةٍ أخرى في هواء الحضن الإسرائيلي، إلا بعد أن تصاعدت سخونة خطوط الطيران التي طافت الأجواء العربية، ذهاباً وإياباً، مُقلة قادة حرب الكيان ورؤساء أجهزته السياسية والأمنية إلى بلاط أصحاب الفخامة والجلالة.
وكبقية شعوب العالم الحرة، كنا نتوقع أن تقوم الأنظمة العربية باغتنام رياح التغيير التي هبت في العالم بإعادة تموضعها بما يخدم مصالح العرب وفق الخارطة السياسية الجديدة الآخذة في التبلور عالمياً على ضوء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا وارتدادتها ونتائجها المختلفة. لكن هذه الأنظمة عودتنا أنها وحُسنُ الظن لا يلتقيان، بل تكاد تسير في خطٍ مُعاكسٍ له تماماً.
فمنذ اندلاع الأزمة الروسية الأوكرانية، وبالتوازي مع تسارع مفاوضات فيينا بشأن النووي الإيراني، باتت إسرائيل الأكثر حضوراَ في المشهد العربي قيادةً وتوجيهاً، ليس على صعيد الترتيبات الداخلية المتعلقة باتفاقيات التعاون الاقتصادي الأمني مع كل قطر عربي من محور أبرهام التطبيعي على حدة فحسب، بل فيما يتجاوز ذلك إلى إعادة تحشيد وبناء محورٍ إسرائيليٍ عربي مناوءٍ لمحور إيران ومن خلفها الرغبة الأمريكية في العودة للاتفاق النووي الإيراني. وهو ما تجلي في قمتين متقاربتين رتّبت أوراقهما "إسرائيل" وجمعت حولهما محور الانقياد الابراهيمي، وتبدّت فيهما صورة "إسرائيل" الجديدة التي تنتقل من مربع العمل الخفي الصامت المتململ إلى مربع الفعل العلني المُحرك لأقطاب المحور، في محاولة محمومة توجِّهُ فيها "إسرائيل" رسائلَ في اتجاهاتٍ ثلاث.
الأولى لحليفتها الولايات المتحدة التي باتت قريبةً من العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران دون أن تلتفت إلى كل الضجيج والصخب الذي أحدثته "إسرائيل" حول هذا الملف، وكأن لسان حال "إسرائيل"، التي رأت كذلك الخُذلان الأمريكي لحليفتها أوكرانيا، يقول بأننا قادرون على إعادة التموضع وبناء المحاور وقيادة دول المنطقة دون الحاجة إلى الوجود الأمريكي، ومن هنا لم يكن الحضور الأمريكي في قمة النقب، برأينا، إلا محاولةً استدراكية من الولايات المتحدة بأن لا تدَعَ إسرائيل تستفردَ في المنطقة وتجرها خلفها دون رقابة السيد الأمريكي، خاصةً بعد قمة شرم الشيخ التي لم تحضرها الولايات المتحدة!.
والرسالة الثانية، غمزت فيها إسرائيل للأنظمة العربية التي جمعتها على طاولة قمة النقب، لتأليبها على الإدارة الأمريكية التي ظهرت بوادر امتعاض بعض هذه الأنظمة منها ومن طريقة إدارتها لملف الأزمة الأوكرانية وملف مفاوضات الاتفاق النووي مع إيران. وأرادت إسرائيل منها أن تقول لهم لا تخشوا من مُعاندة الرغبة الأمريكية التي تأتي خلاف مصالحنا ومصالحكم، ولنقف جميعاً في خندقٍ واحدٍ قادرٍ على أن يدفع الإدارة الأمريكية إلى أن تأخذ مصالحنا واحتياجاتنا بعين الاعتبار.
أما وقد تم الأمر، فلا بد من الرسالة الثالثة والأخيرة للعدوة اللدود إيران التي تمضي في خطىً ثابتةٍ واثقة لترتيب أوراقها في الملف النووي وفي جني ثمار الترتيبات والتوازنات الدولية الجديدة خاصة في القضايا الاقتصادية كالنفط والطاقة، وباتت هي ومحورها في المنطقة أكثر جرأةً وعلانيةً في استهداف "إسرائيل" ومصالحها ومن خلفها دول التطبيع والانقياد.
في كل الأحوال إن كنتم تظنون أن هذا المشهد سوداويٌ ليس فيه ما يشي برائحة خيرٍ للعرب وأمنهم واقتصادهم، فالقصة لم تنهِ بعد، ففي جُعبة سِربِ المهرولين ما لا ينتهي من المفاجآت. فحين كنا نراقب مشهد القمتين محاولين قراءته وفهم خلفيات ودوافع سلوك "جماعتنا" العرب بعين المنفعة والضرر، كان هؤلاء يفكرون خارج صندوق العروبة كلها، بل خارج صندوق الوعي الجمعي العربي، بل خارج كل مألوف فطري إنساني!. وأفقنا فجأةً على تصريحاتٍ مأزومةٍ نادمةٍ على ما فات من الجَفاء، ولو في ظاهره، مع إسرائيل ومناديةً بضرورة إعادة النظر في السرد، وفي الرواية وفي الموروث!. نعم حين كنا في أوج المرارة من هذا المشهد المُنحدرِ والمتجردِ من كل القيم، كان هؤلاء "العرب" يعيدون رسم المشهد الأقبح أمامنا دون رتوش، بما لا يدع مجالاً للرهان على كوابح محتملة لهذا المنزلق الذي بالتأكيد ما زال في بداية انحداره.
لكن للكأس الفارغِ جانبٌ آخر مملوء، فمشهد العملية التي نفّذها فلسطينيان في مدينة الخضيرة، نغّص على المحتفلين بالقرب من قبر بن غوريون، الأبُ العملي للصهيوينة وصاحب الخطة "دالت" القاضية بترحيل العرب، وفي أرض النقب العربي الذي يحاك لذبحه وتهجير سكانه بخنجر تواطئ العرب قبل الخنجر "الإسرائيلي". "وإسرائيل" التي أسهبنا في تفصيل تغوّلها وسطوتها وتمددها في الجوانب المادية من هذا الصراع الطويل الممتد، ما زالت، إلى جانب ما تلاقيه من إيذاءٍ واستهدافٍ مادي عسكري من محور المقاومة، تتجرع الهزائم في صراعها على جبهة الوعي العربي الجمعي وتستميت لتحدث فيها اختراقاتٍ هامة لصالحها. وإن بدى أنها تأتي بالعرب لتقويتهم أو للاستقواء بهم إلا أنها لا تنظر لأبعد من دورهم الوظيفي الآني. وهي في الجانب الحسي الجمعي ما زالت تستعصي على القبول من الغالبية الساحقة عربياً، وربما من هنا تأتي أهمية ما ورد على لسان وزير خارجية الإمارات بالنسبة "لإسرائيل"، حين قال بأننا نريد تغيير الرواية والسرد، أي أن تصبح "إسرائيلُ" دولةً طبيعيةً في المشرق العربي، بحيث تغدو حقيقةً ثابتة غير قابلةٍ للجدل، وأن تكون دولةً قائدةً على مستوى الأقليم.
تأتي العملية التي نفّذها فلسطينيان من أهلنا في الداخل الفلسطيني، ومن تلاها من عمليات نفّذها فلسطينيون كذلك، لتنسف رواية الزيف التي صدرت من النقب، الرواية التي حاولت قلب حقائق التاريخ ونواميسه. فهذة العملية في إطار الصراع على جبهة الوعي تؤكد بكل وضوح أن هذا هو السرد الحقيقي، وهي تعيد القضية إلى سيرتها وصيرورتها الطبيعية الفطرية بأن هذه سلطة احتلال استعماري إحلالي قبيح لا يمكن قبولها في المنطقة حتى لو ألبسها المطبعون ثوب العفة وأسبغوا عليها أطهر الأوصاف، وبأن محاولات تجميل إسرائيل وتقديمها على أنها جزءٌ طبيعي من نسيج هذه المنطقة هو أمر غايةٌ في السخف.
وبغض النظر عن دوافع الفاعلين ومحركهم في العمليات المختلفة في عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة في الداخل، فقد تجاوزت ارتداداتها آذان المتحلقين حول قبر بن غوريون ووصلت خارج حدود فلسطين التاريخية، لتقول للمستجيرين بإسرائيل أنكم كالمستجيرن من رمضاء أمريكا بنار "إسرائيل"، وبأن من لا يقوى على حماية أمنه الداخلي أمام الفلسطيني الأعزل المجرد إلا من إرادته وإيمانه بأن هذا كيان مغتصبٌ طارئ، أعجز عن حمايتكم وحماية أمنكم فهل لفاقد الشيء أن يعطيه!.
. . .