لن يسقطَ التّـابوت
الاحتلال لم يكتف بقتل الشهيدة شيرين أبو عاقلة بدم بارد، بل حاول بكل الطرق والوسائل، أن يمنع إقامة جنازة لها، في بلدها التي تربت وترعرعت فيها، ووقفت فيها إلى جانب شعبها، تنقل صوراً وحقائق عن معاناتهم وما يتعرضون له من ظلم وقمع وتنكيل وتمييز، في ساحة باب العامود وفي الأقصى والقيامة وأحياء البستان وبطن الهوى والشيخ جراح.
صور نقلتها شيرين لأطفال يقفون على أطلال ركام منازلهم، أو يبحثون عن كتبهم ودفاترهم المدرسية وبقايا ألعابهم بين ركام أنقاض تلك المنازل التي دمرتها بلدوزرات وجرافات الاحتلال، صور لمعاناة أمهات وزوجات وأهالي أسرى، صور طرد وتهجير وقهر وألم ومعاناة، يغلق العالم الظالم، المتحكمة فيه دول الاستكبار العالمي، وفي المقدمة منه أمريكا ودول الغرب الاستعماري عيونه ويصم أذانه عن سماعها، لأن مرتكبها دولة الاحتلال الإسرائيلي، التي يجب أن تبقى فوق القانون الدولي، تشرع جرائمها بحق شعبنا الفلسطيني ولا تدان أو تتخذ بحقها أي عقوبات تلزمها باحترام الشرعية الدولية وقراراتها، جعلوا منها دولة طاغية و"متفرعنة"، وفرغوا الشرعية الدولية والقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني من مضامينها وأوجدوا لها معايير مزدوجة وانتقائية في التطبيق.
أربعة وسبعون عاماً وهم يبيعوننا الأوهام والكذب والخداع والتضليل عن الشرعية الدولية الزائفة، بأنها البيت للمظلومين، وليكتشف شعبنا تلك الكذبة الكبيرة، التي ما زال يتمسك بها بعض الحالمين من قيادة شعبنا، والذين يبدو بأن غيبوبتهم السياسية وانفصالهم عن الواقع سيطول.
نعم هي شرعية يفصّلونها على مقاسات خدمة مصالحهم وأهدافهم، ولا يلتفتون لـ"الدوس" على الشعوب وحقوقها ومصيرها، المهم مصالحهم ومشاريعهم ولا شيء غير ذلك.
74 عاماً ومئات القرارات التي صدرت عن الجمعية العامة للأمم المتحدة والعشرات مثلها صدرت عن مجلس الأمن الدولي، بحق دولة الاحتلال، لأنها تنتهك القانون الدولي ولا تلتزم بأي من قرارات الشرعية الدولية، ولا بتطبيق أي منها فيما يخص قضية شعبنا الفلسطيني وحقوقه.
74 عاماً لم تفلح تلك الشرعية الدولية في "زحزحة" طوبة واحدة في مستوطنة، أو منع هدم بيت فلسطيني، فقط ما نسمعه من المجتمع الدولي هو "بيانات رفع عتب"، من شجب واستنكار وإدانات خجولة، وقلق وتصرفات أحادية الجانب، ولعل آخرها التحدي الصارخ من حكومة الاحتلال لكل المجتمع الدولي بالإعلان عن إقامة 4000 وحدة استيطانية في الضفة الغربية، وطرد وتهجير 4000 فلسطيني، بعد هدم قراهم الـ12 في مسافر يطا قضاء الخليل، ولغة المجتمع الدولي وقوى الاستكبار والظلم العالمي، هي نفس الاسطوانة المشروخة، تعبير عن قلق ورفض وشجب واستنكار، سرعان ما يتلاشى تحت عجلات جرافات وبلدوزرات الاحتلال، التي تفرض الوقائع على الأرض الفلسطينية.
وبالعودة لجنازة الشهيدة شيرين التي كان جثمانها مسجى في المستشفى الفرنسي في الشيخ جراح بالقدس، تلك الشهيدة التي حاول المحتل بكل الطرق طمس الحقيقة والتنصل من المسؤولية عن قتلها، وكالعادة اختلق الروايات الكاذبة والمضللة، ولكن الحقائق والأدلة كانت أقوى من كل كذب وزيف رواية المحتل، الذي بدا مربكاً ومتناقضاً في رواياته وبياناته.
بالأمس كان التشييع الأخير لشرين في القدس، حيث أصر أهل المدينة وفي مقدمتهم سواعد شبانها وشاباتها الأوفياء، المنتمين لوطن وقضية والمؤمنين بأن خط ونهج وخيار المساومات والمفاوضات، لن يمكنهم من عمل جنازة تليق بشيرين في القدس، إنها القدس يا عربان التطبيع التي تخليتم عنها وحرفتم اتجاه البوصلة عنها.
هؤلاء الشبان والشابات قالوا إن شيرين يجب أن تمر جنازتها في شوارع القدس وحواريها وأزقتها محمولة على الأكتاف،لكي تلقي نظرتها الأخيرة عليها، ولكي تسمع أذان مساجدها وأجراس كنائسها وهي ترفع وتدق، ولكن المحتل الممتلك لأعتى ترسانة عسكرية متطورة، بما في ذلك القنابل النووية، بدا مرعوباً وخائفاً من التابوت والعلم، ويريد أن يرسخ سيادة زائفة على مدينة محتلة، يعرف أنها يبوسية عربية إسلامية – مسيحية منذ خمسة آلاف عام، مهما حاول أن يطمس معالمها ويغير مشهدها وواقعيها الديمغرافي والجغرافي ويسطي على تاريخها ويزيف روايتها، ويعمل على أسرلة وعي سكانها، فكل ذلك سيسقط أمام إرادة أهلها الصلبة ومعنوياتهم العالية، وإيمانهم وقناعاتهم بأن حقهم في مدينتهم، حقهم في الوجود والبقاء والعيش فيها بحرية، بلا احتلال ولا حواجز ولا قيود ولا أغلال، هو حق مقدس لا يقبل التأويل.
صلى المقدسيون صلاة الجمعة على رصيف شارع المستشفى الفرنسي في الشيخ جراح، تعرضوا للقمع والتنكيل والاعتقال والاعتداء عليهم بالقنابل الغازية والصوتية والرصاص المطاطي والضرب بالهراوات بشكل وحشي، ولكن هؤلاء المقدسيين، قالوا لن يشيع جثمان شيرين إلا كما نريد وبما يليق بها، أخرجوا جثمان شيرين من ثلاجة المشفى وحملوه على الأكتاف، ليجدوا بأن رجال شرطة الاحتلال وجنوده المليئة عيونهم بالحقد والخائفة والمرتجفة من مهابة صورة الجثمان والتابوت التي تحمل لائحة اتهام لهم بقتلها، انقضّوا على التابوت والشبان الذين يحملونه، ورغم كل سياط القمع والضرب والتنكيل، كانت كلمة حاملي النعش والمشيعين، لن نسمح لكم بالانتصار علينا، لا في معركة التابوت ولا معركة العلم، ونحن مستعدون للشهادة من أجل أن نثبت سيادتنا الشرعية على المدينة، ولن يسقط التابوت،حتى لو سقط شهداء منا، ومحظور على المحتل أن ينتصر علينا في معركة التابوت.
نعم عشرات السياط والركلات تعرض لها حملة التابوت، ورغم كل الألم وشدته، صحيح ترنح التابوت، ولكنه لم يسقط، حيث هب كل الموجودين للدفاع عنه، التابوت بقي مرفوعاً ومحمولاُ على الأكتاف، وكانت جنازة مهيبة لشيرين في بلدها التي أحبتها، جنازة توحدت فيها الجموع واختلط فيها الفرح بالدموع، جنازة شارك فيها كل من استطاع الوصول من أهل فلسطين، في مشهد لم تعرفه لا فلسطين ولا القدس من قبل، من حيث كثافة الحضور والمشاركين الذين تقاطروا لكي يلبوا نداء شيرين ونداء القدس، نداء الأقصى والقيامة، ملحقين هزيمة بالمحتل في معركتي التابوت والعلم، حيث كانت الجنازة تزينها راية الوطن، راية فلسطين خفاقة في سمائها.
وثمة السؤال الذي يجب أن نستمر في طرحه، هل تتخلى القيادات الفلسطينية وأصحاب مشاريع الانقسام عن مصالحهم وامتيازاتهم ومنافعهم وعن فئويتهم وأنانيتهم في سبيل مصلحة الوطن، في سبيل مصلحة الشعب، ويستجيبوا لنداء شيرين، نداء القدس، نداء الأقصى والقيامة، كفى.. عودوا إلى رشدكم قبل أن يلعنكم الشعب والتاريخ، فمصلحة الوطن تعلو على أي مصلحة أخرى.
. . .