“التجنيــس” … انـسلاخ عن النـسيـج الوطنـي

“التجنيــس” … انـسلاخ عن النـسيـج الوطنـي

القدس المحتلة - القسطل: لا شكّ أن هناك إجماع سياسي وديني ولنقُل أيضًا شعبي على رفض حصول المقدسيين على “الجنسية الإسرائيلية”، لكن هناك فئة قليلة من بين الـ330 ألف مقدسي يعيشون في العاصمة المحتلة، تدّعي بأنها تحاول الحصول عليها بُغية تحقيق مصالح على الصعيد الشخصي.

يشكّك الناس في “وطنيّة” كل من يحصل على “الجنسية الإسرائيلية”، حتى أن الحاصلين عليها لا يُعلنون عن ذلك بسبب حصولهم عليها “من تحت الطاولة”. واليوم، هناك نحو 700 مقدسي يُطالبون داخلية الاحتلال سنويًا بالحصول على “الجنسية” ما يؤشر إلى الأوضاع المتردّية التي وصلنا إليها وقلّة الوعي والانتماء بحسب مختصين في شؤون القدس.

يقول مدير مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية زياد الحموري إن نحو 320 إلى 330 ألف فلسطيني يسكنون في القدس المحتلة وضواحيها يحملون الهوية الإسرائيلية (الزرقاء)، من بينهم نحو 12 ألفًا يحملون “الجنسية الإسرائيلية”.

ويوضح الحموري لـ”القسطل” أن ما بين 600 إلى 700 مقدسي يقدّمون سنويًا طلبات للحصول على الجنسية، تقوم داخلية الاحتلال بقبول 150 إلى 200 طلب فقط، أي أن 80 بالمائة من تلك الطلبات يتم رفضها.

ويُشير إلى أن الشروط التي تطلبها السلطات “الإسرائيلية” للحصول على الجنسية هي؛ الولاء لدولة الاحتلال، عدم وجود أي ملفات أمنية سابقة (ويُمكن تجاوز بعض الملفات الجنائية)، السكن في القدس، وأن لا يحمل الشخص جنسية أجنبية.

صحيفة “هآرتس” العبرية نشرت الأسبوع الماضي، نقلًا عن داخلية الاحتلال أنه يحق لكل مقيم في دولة الاحتلال ويتراوح عمره ما بين 18 - 21 عامًا بدون جنسية، أن يكون “مواطنًا” (أي يمكنه الحصول على الجنسية الإسرائيلية)، دون معارضة وزير الداخلية.

من يتقدّم للحصول عليها، عليه إثبات أن مركز حياته في دولة الاحتلال من خلال الشهادات المدرسية، وثائق صندوق المرضى (المكان الذي يُعالج فيه المقدسي)، دفعات ضرائب وغيرها من الوثائق.

وبموجب هذا الإجراء، ليس لوزير داخلية الاحتلال أي سلطة تقديرية ويجب أن يوافق على منح الجنسية ما لم يكن مقدم الطلب قد اتّهم في عمليات فدائية وقضايا وطنية ضد دولة الاحتلال أو بارتكاب جريمة جنائية يُعاقب عليها بالسجن لمدة خمس سنوات على الأقل، ولن تسمح القضايا الجنائية المفتوحة، والإدانات بجرائم غير خطيرة أو معلومات استخبارية ضد مقدم الطلب، برفض طلبه.

وزارة داخلية الاحتلال اضطرت إلى نشر هذا الإجراء بعد عدة التماسات تطالبها بالتصرف وفقًا لمادة في قانون الجنسية التي تتيح مسارًا سريعًا للتجنيس لغير المواطنين. وأوضحت الصحيفة أن التقديرات تُشير إلى أن 7000 شاب فلسطيني سيتمكنون من الحصول على الجنسية بموجب الإجراء كل عام.

يُلفت الحموري إلى أن عددًا من المقدسيين قدّموا طلبات لداخلية الاحتلال يُطالبون فيها بالحصول على الجنسية بشكل سريع وعدم إعاقة حصولهم عليها والتي تستمرّ لسنوات طويلة، قد يكون من بينهم تجار يعتقدون بأن هذه الجنسية ستُسهّل عملهم وتجارتهم، أو لربّما آخرين يظنّون بأنهم يستطعيون السكن في أي مكان يُريدونه سواء في الضفة أو القدس.

الجنسية شكل من أشكال إذابة الرفض الفلسطيني لوجود الاحتلال

مدير مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان، المحامي رامي صالح يقول إن الاحتلال يهدف إلى أسرلة المجتمع المقدسي من خلال تسريع الحصول على “الجنسية الإسرائيلية”، وأسرلة الوعي، وشكل من أشكال إذابة الرفض الفلسطيني لوجود الاحتلال.

ويوضح لـ”القسطل” أن هناك سببان رئيسيان لمطالبة المقدسيين بالحصول عليها، أولًا؛ أن مركز حياتهم وإقامتهم ليست مدينة القدس وإنما يسكنون في مناطق خارج حدود بلدية الاحتلال مثل العيزرية والرام أو رام الله مثلًا، وبالتالي يعتقد المقدسي أنه بحصوله على الجنسية، لا تشترط داخلية الاحتلال عليه إثبات مركز حياته ويمكنه العيش في أي مكان في الضفة وغيرها.

أما السبب الثاني، فهو أن باعتقاد بعض المقدسيين بأنهم يستطيعون الحصول على وظائف في العمل، أو الترقية خاصة ممن يعملون في المؤسسات الحكومية، البريد “الإسرائيلي” أو البلدية أو مشافي الاحتلال.

يؤكد المحامي صالح وفقًا للبيانات المتوفرة لدى المركز أن عدد سكان شرقي القدس الحاملين للجنسية الإسرائيلية هو 22 ألفًا و825 وذلك حتى 31 من شهر تموز عام 2019.

هنا ينوّه الحموري إلى أن الاختلاف في العدد يعود إلى وجود مجموعة من أهلنا في الداخل الفلسطيني المحتل ممن يسكنون مدينة القدس بشكل دائم، لذلك يتم حسابهم ضمن العدد الكلي للمدينة.

ليس هناك أي مبرّر للخيانة

الإعلامي المقدسي عنان نجيب يبين أن الموقف الوطني والديني والسياسي معروف حيال هذه القضية، أي ضد التجنيس، كونه يمحو هويتنا الدينية والوطنية والتاريخية، كما اعتبرها “خيانة”.

ويلفت إلى أنه لا يوجد ما يبرر هذا التهافت للحصول على جنسية المحتل، ويُشير إلى أن مرد ذلك بشكل أساس يعود إلى “ضعف الانتماء، والفشل في تدبير الشخص أموره الحياتية سواء على الصعيد الاجتماعي أو الاقتصادي..الخ، فما يجري من كوارث في القدس ليس بالأمر الجديد، فنحن نعاني من الاحتلال من أول يوم احتلّ فيه أرضنا، لكننا لم نفكّر يومًا في الحصول على “الجنسية” بغية تحقيق مصالحنا الشخصية وتفضيلها على قضيتا وقدسنا ومقدّساتنا”.

ويقول في حديثه لـ”القسطل” إنه “طالما نعيش تحت احتلال فهذا يعني أن حجم التحديات مُضاعف، وليس هناك أي مبرر للخيانة”.

ودعا نجيب إلى وجوب الوقوف عند هذه القضية والتنبه لها بشكل جديّ، فهي كارثة، وأن تنطلق حملات توعوية من خلال المساجد ووسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، للحديث عن مخاطر “التجنيس” وأهداف الاحتلال من ذلك.

"التجنيس" .. ضرب النسيج المجتمعي المقدسي

الباحث في شؤون القدس، زياد ابحيص، يوضح أن منح الجنسية الإسرائيلية للمقدسيين “كان محل خلاف لدى “الإسرائيليين” حول جدواه، فالصهاينة تعمدوا تطبيق قانون “الدخول إلى إسرائيل” على المقدسيين، وجرى تكييف وجودهم بعد إعلان ضم القدس في 27-6-1967 باعتبار المقدسيين “دخلوا إلى إسرائيل” لا أن الكيان هو من احتل أرضهم وضمها عنوة”.

ويضيف أن هذا “التكييف القانوني الأعوج كان يقصد منح الاحتلال زوراً عنصر القبول، فأي زائر يدخل إلى أي دولة بتأشيرة دخول يحق لتلك الدولة أن تسحب منه التأشيرة أو حق الإقامة “على أراضيها” إن خالف قوانينها، ومنح التأشيرة وحق الإقامة في القانون الدولي هو حق سيادي للدول وليس حقاً مكتسباً للأفراد”.

ويبين لـ”القسطل” أن فرض وضع صفة “المقيم الدائم” على المقدسيين هو عمل صهيونيّ منهجي يقصد تحويل كل مقدسي إلى مشروع طردٍ محتمل يطبق عند اللزوم، ضمن مخطط فرض أغلبية سكانية يهودية.

وحول منح “الجنسية الإسرائيلية” للمقدسيين، يُشير إلى أن هذا الأمر استجدّ في تسعينيات القرن الماضي مع صعود اليمين وتولي إيهود أولمرت رئاسة بلدية الاحتلال في القدس، إذ “بدأ اليمين يطرح فكراً مختلفاً بخصوص معاملة المقدسيين مفاده فتح آفاق المغادرة الطوعية، وضرب النسيج المجتمعي المقدسي. بنظر متطرفي اليمين أدى فرض صفة “الإقامة الدائمة” على المقدسيين إلى تحويلهم إلى رهائن لا خيار أمامهم، وهذا ما يدفعهم إلى التمسك بالقدس رغم الظروف الصعبة، لكن منحهم “الجنسية الإسرائيلية” سيشجعهم على الانتقال إلى مدن أخرى داخل فلسطين المحتلة أو استخدام الجواز الإسرائيلي للسفر والإقامة خارج فلسطين من الأساس أمام الظروف الصعبة التي تعيشها القدس”.

بقيت جدوى “تجنيس المقدسيين” محل نقاش وتخوف في الأوساط الحكومية، فهو إجراء ذو حدين بحسب ابحيص “صحيح أنه سيدفع آفاق “الخروج الطوعي” للمقدسيين، لكنهم إن لم يختاروا الخروج فهو يجعل طردهم أصعب من الناحية القانونية، كما أنه سيمنحهم حقوق المواطنين في مواجهة شرطة الاحتلال، وربما يساعد ضمهم إلى كتلة “فلسطينيي إسرائيل” على تغيير الخيارات السياسية لتلك الكتلة، وانطلاقاً من ذلك تعطل داخلية الاحتلال معاملات الجنسية المقدمة إليها ولا تسمح سوى بتجنيس العشرات من المقدسيين في كل عام”.

إن التطور الجديد على الموضوع هو حكم محكمة الصلح التابعة للاحتلال في القدس بإلزام وزارة الداخلية بنشر شروط قبول طلبات التجنس للمتقدمين الشباب، وتسهيل الإجراءات بشكل يقدر بأنه سيفيد 20 ألف شخص في تسريع الحصول على الجنسية، لكنه لم يخبرنا حقاً بعدد الطلبات المقدمة فعلاً.

اليوم وبعد أن فُرض هذا الإجراء بقرار قضائي على داخلية الاحتلال فالأرجح بحسب الباحث ابحيص أنه ستحاول تجنب تطبيقه، وستستأنفه وتراوغ فيه، لا لأنه يحقق مصلحة للمقدسيين، لكن لأنه سلاح ما زال مشكوكاً في جدواه وآثاره كما سبق وأوضح لنا. في المحصلة، إذا ما فُرض على داخلية الاحتلال تطبيق القرار فإنها ستفكر في كيفية استخدامه لأغراضها ضد المقدسيين في ثلاثة اتجاهات؛ نوردها هنا في نقاط :

أولًا: إضفاء المشروعية على ضم القدس من قبل المقدسيين أنفسهم، لأن التقدم بالطلبات على أساس “الإقامة داخل حدود دولة إسرائيل” هو اعتراف من المقدسيين بشرعية السيادة الصهيونية على القدس، ولعل هذه الكعكة الأهم بنظر الاحتلال في ظل قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لهم ونقل السفارة الأمريكية إليها.

ثانياً: إحداث شرخ مجتمعي مقدسي بين من يرون أنهم “مواطنون” ويتبنون خطاباً حقوقياً لتحصيل حقوقهم من "الدولة"، وبين من يرون أنفسهم أبناء مدينة محتلة ينشدون تحريرها ويصمدون في وجه المحتل حتى يحين أوانه.

ثالثاً: استخدامها كوسيلة لتقييد وتحديد سلوك المتقدمين الشباب للجنسية لكون أي خرق للقانون سيحرمهم من استكمال طلبهم، وهذا ما قد يحولهم ضمنياً إلى حراس عرب للقانون الإسرائيلي في القدس من الناحية الاجتماعية، إذ سيكونون ضد كل ما يرونه “خرقاً للقانون” تحقيقاً لمصالحهم.

رابعاً: طلبات التجنيس ستشكل فرصة مهمة لاختراق وإسقاط فئة الشباب بدراسة طلباتهم وحالاتهم الاجتماعية، ووضع اشتراطات خدمة لأجندة الاحتلال تحول المتقدمين إلى عملاء مؤقتين أو دائمين.

في الختام، يقول ابحيص: “أياً كان موقف الاحتلال من جدوى إشهار سلاح تجنيس المقدسيين في وجهنا، فلا بد أن ندرك جيداً أنه سلاح موجه ضد القدس والمجتمع المقدسي، والخلاف لا يدور حول كيفية "إنصاف" المقدسيين، بل حول جدوى توظيف هذا السلاح ضدهم بنجاعة”.

الحصول عليها اختياريًا  .. حرام شرعًا

عام 1998، أُصدرت فتوى شرعية تُحرّم الحصول على “الجنسية الإسرائيلية”. وقال رئيس الهيئة الإسلامية العليا الشيخ عكرمة صبري فيها: “إن الظهور للدين وللحق يتنافى مع التجنس بالجنسية الإسرائيلية التي هي نتاج كيان محتل محارب للدين”.

وأضاف أن حمل الجنسية يعطي الصفة الشرعية لاحتلال هذه الديار المباركة المقدسة، كما يترتب على أخذ الجنسية إقرارٌ بضم القدس لكيان الاحتلال الإسرائيلي.

وأوضح أن الحصول على الجنسية باختيار دون إكراه هو إعطاء الولاء لدولة “إسرائيل” والالتزام بقوانينها والاعتراف بها.

وأكد أن حمل الجنسية من قبل أهل القدس يزيد من عدد السكان الإسرائيليين، ليصبحوا هم الأغلبية ما يسهل لليهود التمسك بمدينة القدس وعدم التخلي عنها، ويُعينهم على إخراج المسلمين من هذه الديار المقدسة، ويُضعف الجانب العربي والإسلامي، ويقوّي الجانب الإسرائيلي بشكل عام.

وما زال الشيخ صبري يُجدّد الحديث عن تحريم الحصول على الجنسية في مناسبات عديدة، ويقول: “إن حمل الجنسية الإسرائيلية من قبل سكان مدينة القدس هو حرام شرعاً ما دام الأمر اختيارياً، ولا يوجد قانون يجبرهم على حمل الجنسية”.

معلومات صادمة .. مؤشرات خطيرة

بحسب المعلومات التي حصل عليها مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان، وزوّد “القسطل” بها فإنه خلال عام 2018 تم تقديم نحو 707 طلبات لداخلية الاحتلال من قبل فلسطينيين للحصول على الجنسية، حيث تم رفض 345 طلبًا، والموافقة على 362 طلبًا. أما خلال عام 2019 تم تقديم نحو 2006 طلبات، حيث تم رفض 1096 طلبًا، والموافقة على 910 طلبات.

ننوه هنا إلى أن داخلية الاحتلال قد لا تعطي جوابًا لمقدم الطلب بالرفض أو القبول في العام ذاته، قد يستغرق هذا الأمر من عام إلى أكثر، كما أن الطلب لا يعني أن مقدّمه شخص واحد، وإنما قد يكون الطلب لعائلة تتكون من عدّة أفراد، فعندما نقول بأن هناك 2006 طلبات تم تقديمها عام 2019 فهذا يعني أن 3665 شخصًا يودّون الحصول على الجنسية، وعام 2018 من بين الـ707 طلبات يوجد 1361 شخصًا.

التجنيس قد يكون للبعض مصلحة شخصية لكن لا يمكن تغليبه على المصالح الوطنية والقضية الفلسطينية والفتوى الشرعية التي حرّمت “التجنيس” من محتل كان وما زال يفتك بالشعب الفلسطيني وبأرض فلسطين، يُصادر ويهدم ويقتل ويهوّد كل ما هو عربي وإسلامي في بلادنا المحتلة، ليُلغي أي وجود لنا على أرضنا. التجنيس بإجماع وطني وديني وشعبي انسلاخ عن النسيج الوطني الفلسطيني، وأسرلة للوعي، فكيف لفلسطيني أن يسعى للحصول على جنسية “محتل”.

. . .
رابط مختصر
مشاركة الخبر: