بعيون فتاة مقدسية .. قصةٌ أخرى للقدس
القدس المحتلة- القسطل: "لم أستطع توثيق ذلك المشهد، لكني رأيته بأمّ عيني، أن يمسك الأب يد طفله الصغير، ويدخل المحاكم الإسرائيلية بأمل الخروج بقرار يسمح له بالعودة للسكن في بيته، والمؤلم أن يبكي الطفل تعباً من طول الانتظار وهو لا يفهم ما الذي يحدث، وكل ما يريده العودة لبيته ليرتاح، والحقيقة التي لا يعلمها أن طفلاً بعمره لا يُسمح له بالعودة فإما قرارٌ بالهدم أو التهجير، وأملٌ ضعيف جداً بالإبقاء على المنزل".
كان ذلك مشهداً روته الناشطة اية العباسي (30 عاماً)، حدث خلال توثيقها اليومي لحياة القدس وما يواجه المقدسيين من تحديات، أن تصل لمرحلة تعجز عن التصوير فيها لأن الحالة الإنسانية التي أمامك تأخذك لعالمٍ آخر حيث تتساءل هل سيصدق العالم الفلسطيني لمرة ويقف إلى جانبه عند رؤيته لدموع هذا الطفل الذي لا يريد شيئاً سوى أن يعود لمنزله!
آية العباسي شابةٌ مفعمة بالحياة والطاقة، تعود أصولها لبلدة سلوان وتعيش في جبل المكبر في القدس، وتعمل بشكلٍ أساسي كصانعة محتوى على اليوتيوب والسوشيال ميديا، وتركز في المحتوى الذي تصنعه على الكثير من القضايا الاجتماعية والإنسانية، وتحاول عكس صورة الواقع الفلسطيني بطريقة إيجابية بأكثر من لغة، كالعربية والإنجليزية والهندية.
عام 2010 كانت الانطلاقة في صنع المحتوى على الانترنت، لم تلقى آية الدعم من المجتمع وتعرضت لانتقادات كثيرة، ففي ذلك الوقت تكن مهنة صانع المحتوى مألوفة، رُغم ذلك كانت عائلة آية داعمةً لها، وتساعدها في إنشاء محتواها، وركزت في البدايات على المواضيع المجتمعية، ثم شاركت تجاربها الخاصة في قراءة الكتب، ومع تطورها رويداً رويداً، صارت تسلط الضوء على المواضيع الإنسانية التي لم يهتم لأمرها الإعلام، والتي من شأنها أن تعزز معرفة الدول الغربية عن فلسطين وقضيتها.
رُغم محاولات آية أن يكون محتواها بعيداً عن السياسة، إلا أن وجود الفلسطيني على السوشيال ميديا يعرضه للكثير من التساؤلات، تقول آية:" لطالما كنت أحمل كاميراتي متوجهة للمسجد الأقصى لالتقاط بعض المشاهد الحياتية، وحرص الاحتلال على مصادرة كاميراتي، أو تفتيش ما صورته، أو مصادرة ال اس دي كارد، ذلك بالرغم من محاولتي التعبير عن فلسطين وقضيتها بذكاء، خصوصاً أن محركات البحث حساسة لكل ما يتعلق بالمحتوى الفلسطيني، لذلك على صانع المحتوى أن ينتقي كلماته، ويحرص على إيصال قضيته بالطريقة الأمثل، ومن الأمثلة على المحتوى المصور الذي شاركته في مسابقات دولية، فيلم سينمائي شاركت به في مهرجان إسطنبول تحدثت فيه عن المدينة المقدسة من خلال قصص الإنسان فيها بطريقة مبسطة، نتيجة لهذه التجربة حقق الفيلم مشاهدات عظيمة، وتمت ترجمته للغات عديدة".
تضيف آية لـ "القسطل":" أرى أن وجود كأنثى على السوشيال ميديا هو ضرورة حتمية لي كفلسطينية، ولا يقتصر الأمر على كوني أنثى، أنا أرى أن كل فلسطيني يقع على عاتقه حمل الرسالة، وإيصال الصوت الحقيقي لفلسطين وأطفالها للعالم، من خلال هذا الفضاء، وشخصياً لا أتوانى عن ذكر اسم فلسطين في أي مناسبة أو سفر، لا نستطيع كفلسطينيين أن نصنع من الاحتلال عقبة لكل شيء، بل علينا المضي قدماً وننقل اعتداءات "إسرائيل" بوضوح، وأن نتحدى وجودها لكي نثبت أحقيتنا بالأرض والحياة".
لعبت المؤسسات التطوعية دوراً هاماً في تشكيل شخصية آية العباسي، تقول آية إن الهدف الرئيس من التطوع هو العودة للإنسانية الحقيقية، حيث لا مصالح شخصية سوى تقديم الفائدة للغير، لهذا السبب انخرطت آية في العمل التطوعي، واستفادت من نشاطها على اليوتيوب، لنقل قصص المجموعات التطوعية التي عملت معها، تقول آية:" تطوعت مع مؤسسة تدعى دار الصداقة، وكان عملنا مع طلاب خضعوا لتجارب اعتقال لدى الاحتلال الإسرائيلي، وتعرضوا لإصابات قد سببت لهم إعاقات دائمة، لدى هذه المجموعات مجموعة من نقاط الضعف مثل ضعف اللغة الإنجليزية وحاجتهم للتعبير عن أنفسهم بشكل أكبر، وأنا فرحة جداً أنني استطعت نقل قصصهم وواقعهم بصورة إنسانية، كذلك كنت عاملاً مساعداً لهم في تطوير لغتهم، وعملت المؤسسة على تشبيكهم مع المجتمع الدولي ومنحتهم فرص السفر والمشاركة في مؤتمرات دولية للتعبير عن أنفسهم".
لم يقتصر محتوى آية العباسي على المواضيع الإنسانية الاجتماعية، فقد استطاعت أن تتعلم ذاتياً أكثر من 4 لغات، عبر الانترنت وبتحدي بينها وبين أخواتها، فاستطاعت تعلم الهندية والكورية والإنجليزية والبنجابية والتركية، وحرصت على نقل معرفتها بهذه اللغات عبر قناتها على يوتيوب، ثم تطور الأمر لاحقاً لتنشئ محتوى يعكس قضية فلسطين باللغات التي تعلمتها خاصة الهندية".
ومن خلال تواجد آية كصانعة محتوى على الانترنت لاحظت أن المجتمع الهندي لا يعلم ما يحدث في فلسطين بدقة، فحرصت على نقل محتوى فلسطيني باللغة الهندية، من خلال فيديوهات قصيرة ومبسطة، وهذا جعل الهنود يتفاعلون محتواها، وفي هذا تقول آية:" تواصل معي شاب هندي يدعى راج فندر، أخبرني أنه يرى أن هناك مساواة فيما يحصل في فلسطين بين الإسرائيلي والفلسطيني، لاحقاً تواصل معي وأخبرني أن محتواي دفعه للقراءة والبحث أكثر عن الحقيقة، وهذا الكلام وحده يجعلني ممتنة لكون محتواي حقق أثراً إيجابياً ولو بشكلٍ بسيط ودفع أحدهم للقراءة والبحث عن الحقيقة".
تنفذ آية حالياً مشروعاً يدعى "هنا فلسطين"، وهذا المشروع يرتبط بالثوب الفلسطيني والقرى الفلسطينية المهجرة، حيث ترتدي الفتاة ثوباً يرتبط بكل قرية، وتصور في أحيائها، ثم توثق ذلك آية على وسائل التواصل بإضافة معلومات دقيقة عن تلك القرية، ماذا حدث لبيوتها وسكانها، ومن يسكن القرية من "الإسرائيليين"، مثل قرية عين كارم وصطاف، تقول آية:" دعمني أهلي جداً حتى أن أختي هي الفتاة التي تظهر كفلاحة فلسطينية متجولة في القرية، كما أن المشروع لاقى رواجاً واسعاً على وسائل التواصل الاجتماعي".
"المنظر الذهبي للقدس" هكذا يُسمى جبل المكبر حيث تسكن آية، فجبل المبكر يطل على المسجد الأقصى بزاوية جميلة جداً، نتيجة لذلك توسع الاستيطان بشكل كبيرٍ فيه عن طريق الاستيلاء على البيوت أو تهديمها، واليوم يسعى أهل الجبل من الفلسطينيين على إثبات وجودهم الدائم بالصمود في الجبل، تقول آية:" ما الذي تريده إسرائيل من الهدم المكرر للمنازل في جبل المبكر والأحياء الأخرى؟ تريد أن توصل الفلسطيني لمرحلة من الضجر لكي يترك المكان ويرحل، وتسهل بذلك سيطرتهم على الجبل، وما يسعدني أن أهل الجبل يدركون هذه الحقيقة، ومع كل عملية هدم أو إخلاء أكون شاهدة عليها، يزداد ثبات السكان في أرضهم".
وتضيف:" كنت من السكان التي صودرت أراضيها، وكبرت على أرض ذات مساحة وموقع مميز جداً، وأذكر عمي المحامي الذي أفنى عمره في المحاكم الإسرائيلية يحاول إثبات أحقيتنا بالأرض، هم يسعون لإيلامك في أكثر الأماكن قرباً لقلبك، تخيل أن تمشي بأرض أنت موقنُ أنها لك، لكنك لا تستطيع فعل أي شيء حيالها ولا استثمارها، لذلك فأنا أحرص على نقل الوقائع، لا أفهم بالسياسة ولا أتطرق لها، لكني أقدم الاثباتات والدلائل، أن أتحدث عن الأرض وتاريخها وأري العالم أوراقها الثبوتية والعائلات التي امتلكت الأرض من جيل إلى جيل، هكذا أعتقد أنني أوصل الرواية بالطريقة السلمية الصحيحة".
وعن الاستمرار في نقل وقائع ما يحدث رغم مضايقات الاحتلال لآية وغيرها من صناع المحتوى تقول آية في حديثها مع "القسطل":" أن تخرج يومياً من بيتك وأنت تعلم أنك معرضٌ دائماً لتهديد السلاح، قد تكون الهدف التالي، وقد يكون بيتك البيت التالي، لذلك فقد وصلنا لمرحلة الاعتياد على كل الجرائم اليومية، كأنها روتين من الحياة، وأنا أرى هذا الصمود وحده كافياً ليكون طريقة في الثبات والدفاع عن الأرض، الصمود ذاته الذي لا تراه فقط بالتمسك بالأرض وعدم تركها، بل أيضاً تراه معكوساً في عيون المقدسيين والفلسطينيين، حيث لا منجى ولا ملجأ من فلسطين إلا لفلسطين".
. . .