مقام النبي موسى معتكف المتصوفين وموئل المرابطين
القدس المحتلة - القسطل: كانت القدس، وبريتها الشرقية، ليلة أول أمس على موعدٍ مع حدثٍ غير مسبوق، إذ بثت وسائل التواصل الاجتماعي، لقطاتٍ لحفل راقصٍ صاخب، على أنغام (الجاز) الأمريكية، مصحوبةً بالرقص وتناول الخمور، وذلك في مسجد ومقام النبي موسى، بين القدس وأريحا، وبعد عدة دقائق من تداول تلك اللقطات، تداعى المئات من الشباب المقدسي إلى مسجد النبي موسى، وقاموا بإزالة كافة مظاهر الاحتفال من داخل المسجد.
مسجد ومقام النبي موسى
على بعد 21 كليومتراً، من مركز مدينة القدس، إلى جهة الشرق، يقع مسجد ومقام النبي موسى، وتم بناء المسجد والمقام والخان الملحق فيه، في الموضع الذي تتحدث بعض الروايات الإسلامية عن دفن نبي الله موسى عليه السلام فيه، وقدّ بدأت عملية البناء في هذا الموضع بعد التحرير الصلاحي لفلسطين والقدس من الاحتلال الإفرنجي، وفي 1236 للميلاد أقام القائد المملوكي البناء الحالي لمسجد ومقام النبي موسى، وتم إعادة ترميمه في الفترة العثمانية، وما تلاه من فترات، إذ اعتبر المقام من الأماكن الدينية المقدسة للمسلمين، واستخدم كمسجد ومعتكف ونزل للحجاج القادمين ل(تقديس حجتهم) في الأزمنة التي سبقت الاحتلال الصهيوني للقدس.
موسم النبي موسى
يعتبر موسم النبي موسى من البدع الحسنة التي ابتدعها القائد صلاح الدين الأيوبي بعد التحرير الصلاحي للقدس، من الاحتلال الإفرنجي الصليبي، في العام 1187، إذ لم تكن القدس بعيدةً من الأطماع الإفرنجية، وفي ذات الوقت نصّت معاهدة الرملة، على السماح للحجاج المسيحيين الأوروبيين بالقدوم، إلى القدس، ولأجل الحفاظ عن القدس، والمسجد الأقصى، وإبقائها بعيدةً عن أيّ تهديدٍ خارجي، ولتصل الرسالة بأنّ القدس محميةٌ بأهلها، لا بالجيوش المرابطة فيها وحسب، فقد تم ابتداع موسم النبي موسى، في نيسان من كل عام، والذي يصفه المؤرخ عارف العارف في كتابه المفصل في تاريخ القدس: " المؤرخ الفلسطيني عارف العارف: " فقد جمع السلطان صلاح الدين لهذا الموسم قُرى بني مالك وبني حسن وجبل القدس والوادية، وعززهم بجبل الخليل ونابلس الذين يرِدُون مُتعاقبين إلى القدس مع أسلحتهم ومؤنهم وذخائرهم استعدادًا للطوارئ "، وكان الموسم ينطلق من المسجد الأقصى المبارك إذ تجتمع جموع الوفود من قرى غرب رام الله وشمال غرب القدس، وقرى قضاء الخليل وأهالي القدس ويافا والخليل، في باحات الأقصى بخيولها وسلاحها وراياتها وصرر طعامها، وبعد الرباط في الأقصى لمدة يوم واحد، تنطلق المواكب نحو مسجد النبي موسى ومقامه في برية القدس منشدةً الأناشيد الحماسية، وما أنّ تصل المسجد حتى يتحول المشهد إلى مشهدٍ عبادي تصوفي، يطغى فيه ذكر الله ومديح النبي صلى الله عليه وسلم.
تقيم الوفود الشعبية على ذكر الله عدة أيّام في مسجد النبي موسى، وتتخلل إقامتهم سباقات الخيول، والمبارزة بالسيوف، وعروض الكشافة الفلسطينية، التي ظهرت في بدايات القرن العشرين، إذ استمر الاحتفال بموسم النبي موسى، حتى نكبة فلسطين في العام 1948.
مقام النبي موسى وأولى الثورات
لم تقتصر مكانة مقام ومسجد النبي موسى على المكانة الدينية الروحية، بل للنبي موسى رمزية وطنية نضالية، إذ ارتبط مقام ومسجد وموسم النبي موسى بالثورة الفلسطينية الشعبية الأولى، ضد الاحتلال البريطاني، والمشروع الصهيوني في فلسطين، ففي نيسان 1920، وخلال توجه موكب الخليل المشارك في موسم النبي موسى إلى المسجد الأقصى المبارك ومن ثم مسجد النبي موسى، حاولت سلطات الاحتلال البريطاني منع الموكب من مواصلة مسيره، ولكن جنود الاحتلال البريطاني فشلوا في ذلك، وعند ذلك وفي أزقة البلدة القديمة اختطف أحد الصهاينة راية أهل الخليل، ليهوي عليه أحد رجالها بالسيف على يديه، ومن ثم رأسه، لتتفجر الاشتباكات بين الفلسطينيين والمستوطنين الصهاينة في كافة أرجاء القدس، وبعد 3 أيام من الاشتباك ترسخت معادلةٌ مفادها أنّ القدس والمقدسات صمام انفجارٍ مستمرٍ في فلسطين، تنطلق منه الثورات والهبات الشعبية، وسجل التاريخ أحداث تلك الهبة باسم هبة النبي موسى.
مسجد النبي موسى بين الأمس واليوم
مساء السبت 26 كانون أول 2020، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي في فلسطين والقدس، لقطاتٍ لحفلٍ راقصٍ على أنغام (الجاز) الأمريكية، تمايل على وقعه العشرات من الشبان والفتيات، ولكن المفاجأة كانت أنّ مسجد النبي موسى، هو مسرح ذاك الحدث، في مشهدٍ يحاكي ما عرضه المخرج الفلسطيني، إياد الداوود، في فيلمه الوثائقي (مآذن في وجه الدمار) في العام 1999، والذي يوثق ويعايش ما صنعه المحتلون الصهاينة من تغييرٍ لهوية المساجد في قرى ومدن فلسطين المحتلة عام 1948، مما دفع العديد من الشباب المقدسي للدعوة الفورية للنزول إلى مقام ومسجد النبي موسى، وتعالى ترديد مصطلحٍ مقدسيٍ، حاضر في الهبات الشعبية المقدسية، ألا وهو (نخوة شباب القدس).
نخوة شباب القدس وعودة الفاعلية الشعبية لأهل القدس
بعد عرض اللقطات الفاضحة من داخل مسجد النبي موسى، توافد المئات من الشباب المقدسي إلى المسجد وأزالوا كافة مظاهر الحفل، وطردوا كل من كان موجوداً فيه، وفي اليوم التالي دعت الفعاليات الشعبية في القدس لأداء صلاة العصر في مسجد النبي موسى، وهذا ما تمّ فعلاً بمشاركة الآلاف من شباب القدس، في مشهدٍ يحاكي من حيث الجموع، بل وحتى من حيث الأناشيد المغناة، مشاهداً تكررت في هبة باب الأسباط، وفي حملة الفجر العظيم، بل وحتى في موسم النبي موسى، مما يعيّد الأمل بعودة فعالية الحراك الشعبي الجماهيري في مدينة القدس، بعد أن عصفت به موجةٌ من التراجع بعد جائحة (كورونا) واستغلال الاحتلال الصهيوني لموجتها لمزيدٍ من الخنق والتضييق على المقدسيين.
. . .