ما هي الأسباب الكامنة وراء ظاهرة العنف في الأحياء المقدسية الواقعة خلف الجدار؟
القدس المحتلة - القسطل: قال الباحث في حقل العلوم الاجتماعية، عبد العزيز الصالحي، إن تفسير انتشار العنف على صعيد المجتمع الفلسطيني من المنظور الاجتماعي والاقتصادي، يجب فهمه من خلال المسار الاجتماعي غير الاعتيادي في ظل غياب منظومة قيمية ضابطة للأفراد في المجتمع.
وأضاف الصالحي في مقابلة مع "القسطل" أنه في ظل غياب سلطة سياسية ضابطة بسبب تقسيم المناطق المصاحب لاتفاق أوسلو الذي جعل غالبية السيطرة الأمنية لصالح الاحتلال، وهو الأمر الذي ينعكس على المؤسسات المجتمعية بهرميتها المختلفة (تبدأ من الأسر النووية فالممتدة لتتسع باتجاه المدارس ومراكز الإعلام ورجال الإصلاح والعشائر وحتى دور العبادة)، فإن المساحة تتسع للعنف لحل القضايا والخلافات التي لا يجد الأفراد متسعاً للمنظومة القانونية والأخلاقية لحلها.
الاستعمار مصدر مهم للعنف الداخلي
وتابع الصالحي قائلا: "كما أن السياق السيكولوجي للأفراد والمرتبط بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة الناجمة عن قهر الاستعمار للفلسطينيين والقهر المركب المصاحب لتعدد السلطات القانونية والاجتماعية القاهرة للمجتمع، يزيد من ظاهرة العنف بين أفراد المجتمع، خصوصاً وأن الاستعمار بالأساس يغذي هذه الظواهر التي تدمر النسيج الاجتماعي".
وحول ظاهرة العنف في الأحياء المقدسية الواقعة خلف الجدار، قال: "يجب علينا التركيز في الطرح على أن الأفراد يتفاعلون في حالات العنف هذه بشكل إما مقصود أو غير مقصود مع أهداف المستعمر بشكل أساسي فيما يتعلق بتدمير النسيج الاجتماعي للفلسطينيين، وثانياً وبالرغم من تعامل الاحتلال مع حساسية توفر السلاح بين الأيدي الفلسطينية، إلا أنه يدرك الفائدة المرجوة لصالحه من وجوده بين الأيادي التي لن توجه هذا السلاح تجاهه، خصوصاً للمقدسيين الذين يقطنون خلف الجدار، لأن ذلك يعمل على تشويه الهوية المقدسية بشكل مقصود، والهدف تشكيل ثغرة مجتمعية تساهم في تعميم وصف الجريمة وتشويه الهوية".
وشدد على أن "علينا الحذر بأن ما يحصل بالتحديد في هذه المناطق هو في غاية الخطورة لأنه يصب بشكل مباشر بتلاعب المستعمر بالهويات التي خلقها وتنميطها، كما ويمكن القول إن غياب الأجساد الوطنية في هذه المناطق بشكل مقصود من خلال الاحتلال (اعتقال وتفكيك) خلق عدة ثغرات مدمرة داخل هذه التجمعات تتجاوز العنف ومرتبطة به بشكل أساسي كانتشار المخدرات والاتجار بالسلاح وانتشاره وغيرها".
ويرى الباحث الصالحي أن العنف المصاحب بالسلاح وبهذه الفوضوية يعطي ذريعة للمستعمر بأن لا مكان لكل هذه الفوضى بين "عقلانية" المستعمر التي يدعيها، والتي طبعاً لا تمت بصفات المستعمر الإجرامية بصفة، وإن أخذت طابع "العقلانية"، ودروسنا مع الاستعمار وروايته علمتنا أن المستعمر الصهيوني يخلق ظواهر اجتماعية لتوائم روايته الخيالية المنسوجة حول توصيفه لنا.
التهجير القسري وغياب الأمان الاجتماعي
وأكد الباحث الصالحي في حديثه لـ"القسطل" على أن "التهجير القسري المستمر في فلسطين المحتلة، خلق حالة من غياب الأمان الاجتماعي في اللاوعي الجمعي الفلسطيني، فبات العنف هو التعبير الأبرز من بين ميكانيزمات الدفاع، وللأسف يكون ذلك بين أبناء الحي أو التجمع الواحد، لذا تجد الجماعات تعمل على خلق نماذج تشكل في اللاوعي "رأسمال سلطوي/اجتماعي" يعمل على حماية الجماعة والأفراد في ظل غياب المنظومة القيمية والقانونية، والتي وبالمناسبة أيضاً يغذيها الاستعمار، الذي يمنح امتيازات لأفراد وجماعات على حساب أفراد وجماعات أخرى، لأهداف يرمي إليها للأمام".
وعن حالة كفر عقب، لفت الصالحي إلى أن هذه التجمعات السكانية تشكلت وما زالت تتشكل بمسار اجتماعي اقتصادي غير طبيعي ناجم عن سياسة الاستعمار وممارساته في فلسطين المحتلة وعلى الفلسطينيين، من تهجير وتضييق اقتصادي واجتماعي وقمع مستمر، وهذا من شأنه تغييب النسيج الاجتماعي المتين الطبيعي، فهي لم تتشكل في سياق اجتماعي طبيعي له جذوره التاريخية بين العوائل والأسر.
وبيّن الباحث في حقل العلوم الاجتماعية أن الجماعات في الأحياء المذكورة تسعى للاستحواذ على "رأس مال سلطوي/اجتماعي"، وأن غياب منظومة ضابطة وغياب السياق الاجتماعي الطبيعي لتشكل هذه التجمعات السكانية، يساهم في التسابق على من يستحوذ على هذه السلطة في ظل الفراغ الموجود، فهذا ينجم عنه شعور بالاغتراب الجمعي، والذي يكون إحدى تجلياته العنف كسمة رمزية لتملك السلطة.
وختم الباحث الصالحي بالتأكيد على أن السيطرة الأمنية للاحتلال في هذه المناطق وجدت لغايات تفشي العنف بالإضافة للأهداف السياسية، فالسيطرة على الأرض وسرقتها تعني أيضاً سرقة ثقافة المكان وتفاعلاته الاجتماعية، واستبدالها بأشكال لا معيارية، ففي اللحظة التي يصبح العنف موجهاً نحو الاحتلال تستنفر القوى الأمنية الإسرائيلية لاعتقال من يمتلكه، والاستعمار ومنذ مئات السنين يعمل بمنطق "فرق تسد"، والتفرقة تكن من خلال خلق امتيازات لجماعات على حساب جماعات، تستقوي بها على بعضها البعض، وهذا هو الحاصل في حقيقة الأمر.
. . .