توفّي زوجها وابنها في اليوم ذاته.. منال المقدسيّة واجهت الموت أربع مرّات وصمدتْ
القدس المحتلة - القسطل: كانت طفلة عندما تزوّجت بشاب من قرى مدينة بيت لحم، لم تكن تعي حينها أنها ستعيش أصعب أيام حياتها، وأنها ستكبر قبل أوانها، وستلعب دور الأب والأم معًا، وستشهد على وفاة زوجها وعدد من أبنائها عامًا بعد الآخر.
منال العيساوي/ أبو شيخة، سيّدة مقدسيّة، تبلغ من العمر 42 عامًا، عاشت سنيّ عمرها متنقّلة ما بين بلدتها جبل المكبر الواقعة جنوبي شرق القدس المحتلة وبيت لحم، بعدما تزوجت عام 1995 من محمد أبو شيخة. حينها لم يكن الوضع سيئًا على صعيد الحياة والتنقّل بسبب عدم وجود أي جدار.
لكن بعد عام 2000 وفصل الضفة الغربية عن القدس، من خلال جدار الفصل العنصري، تغيّرت الحياة، ولم يعد أهلنا في الضفة يُسمح لهم بالوصول إلى العاصمة.
تقول منال لـ”القسطل”: “عام 2003 لم يعد زوجي قادرًا على العمل في القدس، وفي حينها كان معي ثلاثة أبناء؛ داود ويحيى ومحيي الدين، وبعد عامين قررت أن أستقرّ في المدينة المقدّسة حتى أستطيع عمل لم شمل لزوجي”.
رفض أمني ..
عام 2005 تمكنت منال من دخول القدس برفقة زوجها وأولادها، بعدما أمّنت بيتًا للإيجار في جبل المكبر وعملًا لها في بلدة شعفاط (شمالًا). رفضت سلطات الاحتلال ملف لم شمل زوجها بحجة “المنع الأمني”، والسبب لا يتعلّق به، بل بإخوته كونهم من الأسرى المحررين الذين قضوا سنوات في سجون الاحتلال، أمّا هو فقد اعتقل مرة واحدة عندما كان صغيرًا في السّن.
جاء ضيف جديد للعائلة عام 2006، إنه عبد العزيز، وبعد عام ابتلي بمرض القلب، وكان دائم المكوث ووالدته في المشفى. عام 2008 سُرّت العائلة بقدوم ضيفة جديدة لتكون الابنة الأولى فأسموها “ملاك”.
عام 2010، كانت الأوضاع سيئة جدًا، فرب العمل الذي كانت تعمل به منال يريد تقليل عدد العاملين فيه. تقول لـ”القسطل”: “في ذلك الوقت، وأثناء تواجدي مع عبد العزيز في مشفى هداسا عين كارم، اتصلوا بي وبلّغوني بأن ملاك مُتعبة جدًا، ونقلوها إلى حيث كُنت، ومكثتْ مدة أسبوع فقط ثم توفيت في السابع من نيسان من ذلك العام، كان عمرها عامين”.
“عوّضني الله بثلاثة أبناء من الذكور، هشام والتوأم محمود وزياد، وبقيت طوال تلك الفترة أرافق عبد العزيز في المشافي، وفي عام 2016 تعب ابني محمود فجأة، ومكث نحو ثلاثة أشهر في مشفى “شيبا”، تقول منال.
كان وضعها مؤلمًا جدًا، ففي الوقت الذي كانت تحتاج فيه للعون والمساندة، طالبها صاحب المسكن في منزله الذي تعيش منال فيه مع أولادها، تعرّضت للعديد من الضغوطات النفسية والجسدية، وأسوأها أن زوجها لم يكن معها، بسبب الاحتلال، خلال تلك الظروف، ولم يسمح له بزيارة ابنه في “شيبا” إلّا بعدما علمت العائلة أن “لا أمل” من شفائه حتى توفي مع بداية عام 2017 (كان عمره 5 سنوات).
الأولاد تعرّضوا لصدمة كبيرة، فقدوا شقيقتهم ثم شقيقهم وهم أطفالًا، فاحتاجوا لعلاج نفسي، وما زاد الأمر سوءًا أن والدهم غير موجود حولهم. وبالفعل توجّهت والدتهم لعدّة مؤسسات لإسنادهم وإخراجهم من حالة الصدمة التي دخلوا بها.
هنا عادت محاولات منال مع وزارة الداخلية التابعة للاحتلال للم شمل زوجها، حتى وصلت معها للمحكمة “العليا الإسرائيلية” التي رفضت الملف بحجة أن ذويه من الأسرى.
“نور الهدى”.. كتب الله لها أن ترى النور عام 2019 لتصبح شقيقة داود ويحيى ومحيي الدين وعبد العزيز وهشام وزياد، لتعود الحياة مجددًا للعائلة التي عانت طوال تلك السنوات من المرض والموت المفاجئ.
حرم الاحتلال العائلة من أن تكون مع بعضها البعض، وأن تعيش كغيرها من الأسر يقوم فيه الأب بدوره، والأم بدورها، بل يكملان بعضهما البعض في الشدّة والأزمات، لكن منال كانت مثال الأم المقدسية الثابتة والصابرة على ما حصل معها.
كورونا وموت الأب والابن ..
أواخر العام الماضي 2020، تمكّن زوجها محمد أبو شيخة من الدخول للقدس بصعوبة ورؤية أبنائه، فقضوا أيامًا جميلة في بلدة جبل المكبر، أيامٌ بالفعل لا تُنسى كما تقول منال.
وأضافت: “خلال آذار من هذا العام، حضر ابني البكر داود حفل خطوبة لأحد أصحابه في الضفة المحتلة، ومكث عند ذويه وعائلة والده مدّة أربعة أيام، ليعود حاملًا أعراض فيروس “كورونا”، حيث دخل المشفى في الـ19 من الشهر ذاته وساءت حالته.
بدأت العدوى بالانتشار في المنزل من داود لهشام وزياد وعبد العزيز ووالدهم، فساء حال عبد العزيز - مريض القلب- وفي الوقت الذي دخل فيه الأخير العناية المكثّفة، نُقل أيضًا داود للعناية (في إحدى مشافي القدس)، كما نُقل والدهم محمد إلى العناية المكثفة في مشفى الحسين بمدينة بيت لحم.
أيمكن تخيّل الوضع الكارثي الذي أصاب منال وحالتها النفسية والجسدية إزاء ما يحدث لها؟ الوالد وابناه في العناية المكثّفة بسبب فيروس كورونا، ما بين الضفة والقدس، تفصل بينهم جدران وحواجز وعسكر، وأولاد في البيت وحدهم، رغم ذلك كانت تردد خلال مقابلتنا لها: “الحمد لله.. الحمد لله”.
يوم أمس، ساءت حالة الوالد وابنه، حتى تم الإعلان عن وفاة داود في القدس صباحًا. وعند العصر كانت منال في طريقها لزيارة زوجها في بيت لحم وإذ باتصال يبلّغها بوفاته...
“كان الأمر صعبًا جدًا، لكن إيماني بالله أعطاني القوة بعدما صُدمت لوفاته، خاصة أواخر الشهر الماضي كانت آخر مرة رأيت فيها زوجي محمد”، تحكي لـ”القسطل”.
وتقول: “شفت زوجي لما توفّى، ما قدرت أكون معه باللحظات الأخيرة، بس طلبت أطلع معه في الإسعاف وأودعه، حكيت معه .. بكيت.. استسمحته وسامحته..”.