فلسطين من نهرها لبحرها قالت كلمتها.. لا نكبة بعد اليوم
فلسطين تقول بصوت واحد من القدس والداخل الفلسطيني وقطاع غزة والضفة الغربية “لا نكبة بعد اليوم”، عهد النكبات والطرد والتهجير القسري ولى، كما ولى عهد الهزائم.
اليوم المواجهات التي تجري مع المحتل على طول وعرض فلسطين التاريخية شكلت نقطة تحول مفصلي وتاريخي في إطار الصراع المحتدم مع المحتل، وهذه المجابهة المستمرة سيكون لمفاعيل تداعياتها نتائج أهم من كل المعارك التي خاضها الفلسطينيون والعرب مع دولة الاحتلال مجتمعين.
نعم هي انتفاضة شعبية تستند إلى قوة عسكرية تحميها، وبالتالي هي تحمل أبعاداً استراتيجية وتغيرات أساسية في الصراع التاريخي مع المحتل.
اليوم بتّ على قناعة تامة بأن هؤلاء الشبان والفتيان الذين كان قادة الاحتلال من الأب الروحي للحركة الصهيونية جابتونسيكي إلى بن غورين وبيرس وبيغن وشامير وشارون وحتى نتنياهو يعتقدون بأنه جرى كيّ وصهر وتطويع وتجريف وعيهم، هم من كسروا المعادلات والتوقعات، حيث هم جنرالات وقادة هذه الهبات الشعبية التي انطلقت من مدينة القدس.
كيف لا والقدس مهد الثورات والهبات الشعبية، هبة ساحة البراق 1929، والانتفاضة الثانية التي نتجت عن تدنيس المغدور شارون للمسجد الأقصى في أيلول 2000، ومن بعد ذلك انهمر سيل عطاء هبات القدس المتتالية في تركيم يبنى مداميك الإنجازات والانتصارات، هبة الشهيد الفتى محمد أبو خضير في تموز 2014، مرورًا بهبة الشهيد مهند الجلبي أو ما عرفت بهبة "السكاكين"، وهبة البوابات الإلكترونية على بوابات المسجد الأقصى في تموز 2017، وهبة مصلى باب الرحمة 2018 و2019، ولتبلغ الهبات ذروتها خالقة وضعًا ثوريًا أنتجه بشكل متسارع نضوج عامله الموضوعي المتمثل في الاحتلال بكل مظاهره العسكرية والأمنية والشرطية والاقتصادية والسياسية، وما يترابط معها من سلسلة طويلة من المخططات والبرامج والمشاريع والقوانين التهويدية والعنصرية المستهدفة تهويد المدينة وأسرلة سكانها وقلب واقعيها الجغرافي والديمغرافي لصالح المستوطنين وبما يشكل تغيير مشهدها الكلي وتزوير تاريخها وتزييف روايتها.
ولتكن هبات القدس المثلثة والمتداخلة، هبة ساحة باب العامود وهبة الآقصى وهبة الشيخ جراح، هبات ضخت الروحين المعنوية والكفاحية في شريان شباب ثائر يمتلك ويختزن الكثير من النفس الثوري والطاقات، احتجزتها وأعاقتها ثقافة أوسلو الانهزامية، ثقافة الهزيمة والانهزام التي ابتدعها أصحاب مشروع أوسلو الكارثي الاستثماري .
هذه الهبة شكلت ضاغطًا قويًا على العامل الذاتي المعيق لتطور هذه الهبات الشعبية المحلية إلى انتقاضة شعبية شاملة، من قبل سلطة بائسة ما زالت قانعة بنهج وخيار أثبت فشله، خيار التفاوض من أجل التفاوض والذي لم يستطع أن يحمي لا أرضًا ولا سكانًا، ولم ينجح في زحزحة حجر مستوطنة واحدة، بل بوجود هذه السلطة تضاعف الاستيطان عشر مرات منذ أوسلو.
الآن نحن أمام انتقاضة شعبية شاملة حقيقية، انتفاضة شعبية فيها توحد ميداني بين كل مكونات ومركبات شعبنا الفلسطيني، والشيء اللافت هنا ليس دعم هذه الانتفاضة بالنار من قبل المقاومة الفلسطينية، بل خوض هذه الانتقاضة بوحدة على طول مساحة فلسطين، ناهيك عن تفجر هذا الغضب الشعبي، لكي يشمل مخيمات اللجوء، وكذلك شكّل رافعة للجماهير العربية والإسلامية لكي تكسر حاجز الخوف مع أنظمتها القمعية، التي بقيت على مدار 73 عامًا تشكل الحارس الأمين على دولة الاحتلال، وتبيع شعبنا وشعوبنا العربية الأكاذيب والخداع والتضليل، بأنها تعمل من أجل تحرير فلسطين.
الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الحالية، في نوعيتها وتفاعلاتها وتأثيراتها، تعري وتكشف عورة النظام الرسمي العربي، الذي تعرى كلياً مثل راقصة "الستربتيز" بدون ورقة توت، حيث هرول نحو التطبيع العلني مع دولة الاحتلال، وذهب أبعد من ذلك بنسج تحالفات علنية استراتيجية عسكرية وأمنية معها.
هذا النظام المنهار والمتعفن مؤسساته الرسمية من اتحاد برلمانات عرب وما يسمى بالجامعة العربية، لم تعد قادرة حتى على إصدار بيانات الشجب والاستنكار الخجولة، وخرجت ببيانات ختامية لا يساوي قيمة الحبر الذي كتبت فيه.
يبدو بأن مقاومة وانتفاضة فلسطين الباسلة قد بثت الروح المعنوية في عروق الشعوب العربية المتيبسة والتي أرهقتها ثورات الربيع العربي، التي أصابتها بسهام المذهبية ولوث الانقسام، وصبّت اهتماماتها على قضاياها المحلية على حساب القضايا الكبرى للأمة.
اليوم عندما تندفع الجماهير العربية والفلسطينية من الحدود اللبنانية والأردنية صوب فلسطين المحتلة، فهي تؤكد على وحدة النهج والهدف والمصير وترسل مجموعة من الرسائل؛ أولها للاحتلال بأن حق العودة للشعب الفلسطيني ثابت ولا يسقط بالتقادم، كحق فردي وجمعي وقانوني وتاريخي ولا تلغيه أو تشطبه لا صفقة قرن ولا هرولة تطبيعية لنظام عربي بائس.
وثانيها؛ للمجتمع الدولي، وتقول له كفى نفاقًا وازدواجية معايير ودعمًا لدولة الاحتلال للبقاء كدولة مارقة فوق القانون الدولي، وما يسمى بالشرعية الدولية، تطبق فقط ما يخدم مصالحها.
وكذلك هذه الجماهير تقول لدول النظام الرسمي العربي البائس، يكفيكم ذلاً وهواناً وخنوعاً وحماية لدولة الاحتلال، ألم يحن الوقت لكي تقفوا وقفة عز وتمتلكوا إرادتكم وقراركم؟.
الانتفاضة الشعبية التي يزداد لهيبها، والإسناد الناري والعسكري لها من قطاع غزة، رسخ وثبت الحقائق التالية:
"المقاومة الفلسطينية" ثبتت نفسها كعنوان واضح ومحدد، وكذلك برهنت هذه الفصائل أنها جسم واحد يقاتل ويضحي ويقاوم من أجل كل فلسطين المحتلة. وقد جسدت ذلك بالهبة الواحدة، وبالكلمة الواحدة، وبرابطة الدم المشترك الواحد الَّذي سال في المعركة نفسها، وفي سبيل الأهداف نفسها.
إضافةً إلى بُعد تثبيت معادلة منع استهداف المدنيين في غزة وغيرها، من خلال الرد باستهداف المدنيين والمناطق المدنية لدى الكيان الصهيوني، تخوض المقاومة أيضاً معركة تثبيت شرعيتها كمقاومة تقاتل وتفاوض بالحديد والنار وبذل التضحيات، لنصرة كلّ فلسطين، وكل الأراضي المحتلة.
كذلك تخوض المقاومة الفلسطينية أيضاً معركة إثبات صحة نظرتها ورؤيتها، والتي لطالما اعتبرت من خلالها أن المقاومة هي السبيل الوحيد الذي يحمي الحقوق ويعيد ما تم اغتصابه منها، وأن مسار التسويات والتطبيع أو التفاوض مع عدو مثل الصهاينة، هو مسار فاشل وغير مناسب، وما حصل ويحصل في القدس وفي أحيائها القديمة، وعلى أبواب المسجد الأقصى وفي باحاته، من عربدة صهيونية، وقبل أن ينطلق أي صاروخ من غزة، هو خير دليل على صحة موقف المقاومة الذي لطالما كانت ثابتة عليه.
ومن هنا فلسطين قالت بصوت واحد من القدس ومن الداخل الفلسطيني ومن غزة ومن الضفة الغربية في الذكرى الثالثة والسبعين للنكبة بأنه لا نكبة جديدة لشعبنا، بل عودة قريبة، والقدس باتت أقرب، وزمن الهزائم قد ولى، كما ولى زمن النكبات.