كيف أسّست الإرادة الشعبيّة والمقاومة لمعادلة جديدة في القدس والأقصى؟
في 2021/5/10، الموافق 28 رمضان، تمكّن المرابطون من إفشال اقتحامٍ كانت تحشد له "جماعات المعبد" للاحتفال بما يسمّى "يوم القدس" أو استكمال احتلال القدس، وفرضت الإرادة الشعبية كلمتها في مقابل صلف الاحتلال لتفرض عليه منع الاقتحام الذي كان مسؤولون سياسيون وأمنيّون يؤكّدون حتى يوم الأحد السابق له أنّ الاقتحام سيتمّ "وفق المعتاد".
في اليوم ذاته، انضمّت المقاومة من غزة إلى المشهد ورفدت ثبات المرابطين والمعتكفين، وفي ظلّ استمرار اعتداءات الاحتلال أطلقت صواريخ من غزة وصلت القدس وفرضت على الاحتلال إلغاء مسيرة الأعلام التي ظلّ متمسّكًا بها حتى اللحظة الأخيرة ليتجنّب "توالي النكبات" في يوم واحد وليغطّي على عدم قدرته على تأمين اقتحام الأقصى، واضطرّ كذلك لإخلاء ساحة البراق من المستوطنين الذين كانوا يحتفلون بـ "يوم القدس" بسبب صواريخ المقاومة.
استمرّ إطلاق الصواريخ من غزة وفشل الاحتلال في وقفها رغم المجازر التي ارتكبها في القطاع، وبالتوازي عاد "نشطاء المعبد" للدعوة إلى اقتحام الأقصى لمناسبة "عيد الشفوعوت أو الأسابيع" بدءًا من الأحد 2021/5/16 وعلى مدى ثلاثة أيام. إلا أنّ تحضيرات المستوطنين لجولة جديدة من الاقتحامات والاعتداء على الأقصى تلاشت عند باب المغاربة الذي لم تفتحه شرطة الاحتلال للاقتحامات صباح أمس الأحد.
وجاءت خطوة الشرطة بناء على قرار من رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو مفاده أنّ الأقصى سيظل مغلقًا حتى إشعار آخر على خلفيّة الأوضاع الأمنيّة. ومن المفيد هنا التذكير أنّ الاحتلال سمح باقتحام الأقصى في يوم عيد الأضحى عام 2019 ليحتفل المستوطنون بذكرى "خراب المعبد" وكان نتنياهو ذاته شريكًا في القرار، وما أقدم الاحتلال على ذلك إلّا لتقديره حينها أنّ الاقتحام سيمرّ من دون أن يلاقي ردّة فعل أو مقاومة.
المشهد الذي تبلور منذ بداية شهر رمضان، وتوّجَهُ إفشال اقتحام الأقصى ومسيرة الأعلام يوم 28 رمضان صولاً إلى عدم السماح بالاقتحامات بعد عيد الفطر، يدلّ على أنّ تصعيد الاحتلال من وتيرة الاعتداءات على الأقصى، لا سيّما رعاية المستوى الرسمي للاقتحامات والمساعي إلى تكريس وضع قائم جديد، كان نتيجة اطمئنان الاحتلال إلى أنّ اعتداءاته ستمرّ من دون ثمن، وأنّه في أصعب السيناريوهات، سيكون قادرًا على ضبط الشارع ومنع المقدسيين من مواجهة اعتداءاته والردّ عليها.
ويمكن القول إنّ الاحتلال كان يركن إلى أنّ هبّة المقدسيين باتت مستبعدة أو أنّها ستكون حراكًا عابرًا يمكن ضبطه وقمعه، وأنّ الضفة لن تتحرك لا سيّما أنّ السلطة تعمل على منع أيّ حراك كونها تراه مخالفًا لمصالحها. وعلاوة على ذلك، فإنّ الاحتلال كان يتصرّف منطلقًا من اعتقاده أنّ المقاومة، تحديدًا في غزّة، مكبّلة بالحصار وبالخوف من الحرب والنار، وأنّها لن تردّ على اعتداءاته أو ستردّ ردًا شكليًا أو رمزيًا مهما تمادى واعتدى، أمّا انتفاضة الداخل فيمكن القول إنّ الاحتلال لم يكن يتوقّع توقيتها.
لكنّ الجولة الدائرة من المواجهات تشير إلى أنّ حسابات بيدر الاحتلال لم توافق حسابات حقل جماهير القدس والمقاومة، ولعلّ الاحتلال لم يقرأ جيدًا الغليان المستعر في الشارع المقدسي الذي تأجّج مع بداية شهر رمضان عندما وضع الحواجز الحديدية في منطقة باب العامود، ثمّ استمرّ في عدوانه على الأقصى وصولاً إلى السماح بالاقتحامات في اليومن الأوّلين من العشر الأواخر، وتعهّد وزير الأمن الداخلي في حكومة الاحتلال بالسماح باقتحام الأقصى في 28 رمضان.
كذلك، فشل الاحتلال في قراءة الانتصار الذي حقّقه المقدسيّون في باب العامود عندما تمكنوا من إجباره، بعد 13 ليلة من المواجهات والصمود، على إزالة الحواجز الحديديّة التي وضعها ليسيطر على المكان. فقد أعطى ذلك الانتصار المقدسيّين ثقة بأنّ إرادتهم قادرة على إجبار العدو على التراجع. وعلى ما يبدو، فإنّ انصياع الاحتلال وتراجعه لم يسحب فتيل الانفجار من الشارع المقدسي ولم يمتصّ الغضب الذي يشتعل في نفوس المقدسيّين في الوقت الذي يتحضّر فيه الاحتلال لارتكاب مجزرة في حيّ الشيخ جراح عبر طرد سبع عائلات مقدسية من منازلها في الحي لمصلحة مستوطنين يدّعون ملكيتهم للأرض قبل عام 1948، كمقدّمة لطرد عائلات أخرى.
وعلاوة على ذلك، فشل الاحتلال في قراءة تهديدات المقاومة من غزة التي أكّد قادتها في تصريحاتهم أنّ ثمّة قرارًا واضحًا بعدم السماح بتهويد حيّ الشيخ جراح واقتحام المسجد الأقصى يوم 28 رمضان وعربدة الاحتلال على أبناء الشعب الفلسطيني.
وقد أكّد المشهد الحالي أمرين مهمّين: الأوّل أنّ القدس لا تزال خطًا أحمر على المستوى الشعبي وعلى مستوى المقاومة، والآخر أنّ عدوان الاحتلال على القدس والأقصى وتماديه في ذلك يرتبط بشكل طردي مع شعوره أنّ هذه الاعتداءات ستمرّ من دون تعريض أمنه للخطر، فكلّما اعتقد أنّه لن يدفع ثمنًا مقابل عدوانه على القدس والأقصى أمعن في العدوان، أمّا إذا تبيّن له أنّ أمنه مهدّد وأنّ الكلفة عالية فلن يكون أمامه إلّا مراجعة حساباته وإعادة النظر فيها.
إذًا، اجتمعت الإرادة الشعبية والمقاومة للتأسيس لمعادلة جديدة في حماية القدس والأقصى، وهي معادلة يمكن البناء عليها لفرض مزيد من التراجعات على الاحتلال، ويبقى على مختلف الأطراف أن تحسن الاستفادة منها لما تشكّله من عنصر قوّة في مواجهة الاحتلال ومخطّطاته التهويديّة.